قبل أزيد من خمسة قرون وإبان احتلال الرجل الأبيض للقارة الأمريكية، كان الهنود الحمر يطلقون على المحتل آنذاك الرجل الأبيض لقب : "العين البيضاء" لأنها عين فارغة لم تكن ترى في الكون سوى البياض . إنها العيون التي رأت في سمرة البشرة دناءة فاستغلتها أشد الإستغلال في الرق والعبودية . تلك العيون البيضاء نفسها استعبدت الإنسان الإفريقي وقامت بتهجيره عنوة من القارة السمراء ليحط الرحال مرغما بالعالم الجديد القديم قدم الشمس والماء في قلب الهنود الحمر. أولائك الذين آمنوا بجمال وقدسية الأرض وروحانية الجبال وسلطة الريح . لقد اضطر الهندي الأحمر ليخنع لإرادة العين البيضاء حفاظا على سلالته من الإنقراض لكنه لم يفرط يوما في حقه المشروع والأبدي في حقه في الأرض الأمريكية. ولم يبع الهندي الأحمر أرضه للغريب المحتل حينذاك كما فعل الفلسطينيون قبل حلول إسرائيل بأرض القدس وبعدها ليفطنوا فيما بعد أنهم قد باعوا أنفسهم بثمن بخس وبئس المشتري. قد تغضب هذه الجملة بعض إخواني وأصدقائي الفلسطينيين (الأردنيين واقعيا) لكن التاريخ شاهد ونقد الذات واجب بل صحي كتناول جرعات الدواء المرة من فينة لأخرى قبل إلقاء اللائمة على الآخر(المرض).
أكاد لاأجد تعبيرا أكثر تجسيدا لرؤية الأوروبي للعالم من وصف الهنود الحمر الذين فهموا روح الرجل الأبيض المتسمة بالتعالي والسمو والتكبر والجرأة والمبادرة والجشع والطغيان. قد يصفني القارئ بالعنصري والكاره المتحامل على البياض وبرودة الدم والضمير، لكنني ماجئت بكل هذه الأوصاف من وحي إلهامي ولا من مبالغة أفكاري بل هي أوصاف ذكرها الهنود الحمر قبلي وقبلك بمئات السنين . فهم أعرف الناس بشخصية الأوروبي الذي احتل أرضهم وأسفك دماءهم وسلب ثرواتهم ومحى تاريخهم وحرف ألسنتهم وكاد يقضي على سلالتهم.
واقع الأمر اليوم مختلف فأحفاد الرجل الأبيض مختلفون عن أجدادهم في الرؤية والمنهج بل وحتى الدم فقد اندمجوا (أو تاهوا) واختلطت أجناسهم وأعراقهم حتى أوشك من الصعب الحديث عن عين صافية البياض لاتعتريها صبغة الحمرة ولايشوبها خليط السواد. لكن التعميم يخرج من باب السذاجة ولايدخل عقل عاقل والإستثناء أمر قائم وشأن دائم لايزول والنسبية قاعدة علمية لامحيد عنها. فلازال ثمة أناس ينظرون بعين بيضاوية يملأها الإزدراء لكل لون يخالف "نقاء" سلالتهم فيشككون في مقدرة رجل أسود ذو جذور إفريقية على إدارة البلاد واعتلاء عرش امريكا. قد ينفي البعض هذه الحقيقة ، التي تسترها الإبتسامات العريضة أمام عدسات الكاميرا وتضمرها الخطابات الرنانة في صدى مكبرات الصوت ، متحججا بأن أمريكا بلد القانون والعدالة والحرية والمساواة . لكنه في النهاية يبقى قانونا وضعته أقلية مسيطرة يمثلها الرجل الأبيض الذي أصبح فيما بعد أغلبية .
وقبل أيام قلائل، ظهر ت أحد العيون البيضاء الشريفة، التي تعتبر نفسها لونا واحدا فقط أمام تعدد الألوان،على شاشة "سي إن إن" لتعلن أمام المشاهدين الخطر الداهم الذي يتربص بأوباما : القتل. كان ذلك تصريحا لرجل أتقن فن المصارعة قبل السياسة جيسي فنتورا الحاكم رقم 38 الأسبق والمستقل لولاية مينسوتا. جيسي فنتورا كان واحدا من الأحرار القلائل الذين نهجوا منهج الإستقلال عن الديموقراطييين والجمهوريين ورفضوا كل التسميات والإنتماءات ماعدا واحدة ألا وهي : الشعب الذي جاءوا من أجله لكرسي القيادة لتمثيله وحل مشاكله وتفريج همومه وتحقيق رغده بعيدا عن السياسة والمال والجاه والحسب والدين. وكنت قد زرت مينيسوتها عدة مرات بعد استقالة فينتورا فوجدتها مختلفة ووجدت بصماته في كل مكان وفي أعين الناس. حينها فهمت أن العيون البيضاء وحدها حين تمتلأ تصبح معدية فتغير نظرة كل العيون البيضاء من حولها. وجدت أن تعداد الصوماليين بمنيسوتا يفوق 60 ألف وأن اللغة الصومالية تدرس بالمدارس العمومية وأن الأقليات المسلمة تنعم بحقوقها وأن للجالية العربية محطة إذاعية وبرامج تلفزيونية وأن المنشورات الحكومية تطبع وتترجم الى كل الألسنة واللغات وأن هنود مينيسوتا من أغنى الهنود الحمر بأمريكا برمتها. بل وجدت أن الطبيعة نفسها منحت مينيسوتا عشرة آلاف بحيرة لتكرس ميزة التعدد والإختلاف فيها.
ولنرجع عزيزي القارئ الى سنة 2002 لكن لن نغادر مينيسوتا ولا محطة "سي إن إن" ، لكن لنتحدث هذه المرة عن رجل شريف آخر اسمه بول ويلستون السيناتور الديموقراطي الذي فارق الحياة (قتل) يوم الجمعة 27 ديسمبر بعد "تحطم الطائرة" التي كان تقله بصحبة زوجته شيلا وابنته مارسيا وثلاثة من فريق مكتبه وإثنين من طاقم الطائرة. قد ننسى عزيزي القارئ وقائعا لم تحدث صدفة لكن التاريخ يجيد مهنة التذكر ولايعترف بمنظومة النسيان. أتذكر حين قامت "سي إن إن" بتغطية خبر وقوع الطائرة فوصفته "بحادثة جراء عاصفة ثلجية". لن أتحدث عن حسنات الرجل ولاعن أخلاقه السامية التي اعترف بها أعداؤه (قاتلوه) قبل أصدقائه المقربين المتمثلة في الدفاع عن المعوزين والأقليات والنساء والأطفال والشيوخ والناس البسطاء سواء بمينيسوتا أوبالكونجرس الأمريكي، ولن أسهب في الحديث عن زوجته شيلا التي كانت سترشح نفسها في 2002 لتصبح حاكمة لولاية مينسوتا بعد فينتورا لولا أيادي الغدر (وليس عاصفة القدر). ولن أبالغ في وصف اليهود أنفسهم له ب "اليهودي السيء الذي يربي أولاده خارج التقاليد اليهودية" ولن أتحدث عن كرههم له بسبب تزوجه من امرأة غريبة "غير يهودية".
لقد اغتالت العيون البيضاء كل الشرفاء فيما قبل ولم تبقي منهم أسودا أو ابيضا أو أحمرا. واللائحة طويلة كبعد نظر العين البيضاء، وسأكتفي بذكر مارتن لوثر كنغ وجون فرانسيس كينيدي وروبرت فرانسيس كينيدي ومالكوم إكس (الحاج مالك شباز) وبول ويلستون. فهل ياترى يلتحق أوباما بموكب هؤلاء العظماء لينضم الى ضحايا القدر (الغدر) وليتحول الى حلم أمريكي وأسطورة لم تتحقق أم أنهم سيكتفون باغتياله سياسيا اولا مع امكانية اللجوء الى الإغتيال الفعلي في حالة فشل القتل السياسي.
قد تكون هذه المرحلة آخر فرصة للعين البيضاء كي تكفر عن خطاياها الماضية فتغض النظر عن حسابات المال والدين والعرق والسياسة لتمنح للشعب الأمريكي وللإنسان الأمريكي البسيط الحالم حرية الإدلاء بصوته دون إسكاته لأول مرة في تاريخ أمريكا.
أنا متفائل بطبعي لأني أؤمن بأن الصبح سوف يتنفس غدا، وأن الشمس سوف تشرق غدا وأن النهار آت غدا رغم طول الليالي وحلكة الظلام لكنني أتشاءم من العين البيضاء لأنها جبارة ماكرة وأثق في حدس الهنود الحمر أكثر من ثقتي في العين البيضاء.
سأختم مقالي هذا مذكرا بقول صديقي لورنس مارش ذلك العجوز الحكيم ذو العينين السوداوتين الذي فارق الحياة قبل سنتين جراء سكتة قلبية( طبعا لو كان مرشحا للرئاسة لقلت أنها مؤامرة اغتيال ولست أمزح)، قال لورنس الحكيم : "قد تحكم أمريكا امرأة بيضاء يوما ما في زمان ما، لكن لن يحكمها رجل أسود طالما فيها عين بيضاء".
هناك تعليقان (2):
لقد استمعت من ان الفلسطينين قد باعوا اراضيهم الى اليهود و لكني لم اجد ما يوثق ذلك و انا اكثر ميلا الى انه لو جرت فكانت عمليات محدودة و لم تكن سببا في عملية الاستيطان المنظم الذي فعله الصهاينة بدعم من بريطانيا و فرنسا و المانيا و امريكا.
الرجل الأسود،قدمته الإدارة البيضاء من أجل تأكيد ادعائها كونها إدارة دولة ديمقراطيةتعطي لبقية العالم دروسا في الديمقراطية،مثلما فعلت عندما وضعت رجلا أسود آخر على رأس هيئة الأمم المتحدة التي تتحكم في قراراتها بفعل تحكمها في ميزانيتها...
وأرجو أن أجد من يراهنني على 10000 دولار أبيض ،إن تحقق مرور الرجل الأسود إلى كرسي البيت الأبيض...
تحية "قهوة بحليب"
إرسال تعليق