الثلاثاء، أبريل 29

صرخة تحذير خليجية متأخرة

عبد الباري عطوان
يسجل للفريق ضاحي خلفان تميم القائد العام لشرطة دبي شجاعته، وعدم تردده في قول الحقيقة، ولذلك لم يفاجئنا عندما فجر قنبلته المدوية في ملتقي الهوية الوطنية في ابوظبي، وتساءل عما اذا كان هندي سيترشح للرئاسة في دولة الامارات في المستقبل القريب، مثلما هو حال باراك اوباما في الولايات المتحدة الامريكية.
صرخة التحذير هذه، وعندما تصدر عن شخص يملك الكثير من الأسرار والمعلومات حول التركيبة السكانية، وحقيقة الاوضاع والتوترات الأمنية، الآنية والمستقبلية، المنبثقة عنها، فانه يجب الاستماع اليها، والتوقف عندها ليس في دولة الامارات العربية المتحدة فقط، وانما في جميع دول مجلس التعاون الخليجي الاخري دون اي استثناء.
فالمقارنة بين الرئيس الهندي المقبل لدولة الامارات وباراك اوباما مرشح الرئاسة عن الحزب الديمقراطي، ربما ليست في مكانها وزمانها، ولكن ربما لن يكون الحال كذلك بعد عشرين عاما علي الاكثر، اذا وضعنا في اعتبارنا حالة الاستياء العالمية من تدني حقوق العمالة الاجنبية في دول الخليج، ومبادرة دول مثل الولايات المتحدة الي المطالبة باعطاء هؤلاء حقوق المواطنة الكاملة بسبب دورهم في تطوير اقتصاديات الدول التي يقيمون فيها لعشرات السنين في بعض الحالات.
الهوية الوطنية في معظم دول مجلس التعاون الخليجي تتآكل بشكل متسارع، وتحل محلها هويات مشوشة لم تتبلور بعد، وتأخذ الشكل الذي يعكس التوازنات والحقائق العرقية والمذهبية علي الارض في الوقت الراهن، وكون ابوظبي استضافت مؤتمرا لدراستها وبحث جوانب الخلل فيها، فان هذا اعتراف غير مسبوق، يؤكد حالة القلق والتململ السائدة حاليا في اوساط الحكام والمحكومين في آن.

فاذا اخذنا دولتين خليجيتين كمثال علي مدي استفحال هذا الخلل، فاننا نجد ان عدد سكان الامارات تضاعف مرتين في السنوات الثماني الماضية، اي من 3.5 مليون نسمة الي ثمانية ملايين نسمة، وانخفضت نسبة المواطنين الي مجمل عدد السكان من 20% الي 10% فقط. ومن المفارقة ان عدد المواطنين البالغ 800 الف نسمة حسب الاحصاءات الرسمية يشكل نصف عدد افراد الجالية الهندية البالغ تعداده 1.5 مليون نسمة.
واذكر ان مسؤولا اماراتيا قال لي بألم شديد، ان السفير الهندي الجديد عندما قام بزيارة تعارف الي مكتبه، ابلغه انه عائد لتوه من زيارة الي امارة دبي، واكتشف، والسعادة بادية عليه، ان مدينتي دبي وابوظبي هما اجمل مدينتين هنديتين في العالم بأسره.
اما حالة دولة قطر فليست وردية علي الاطلاق، ففي دراسة نشرها الدكتور علي خليفة الكواري مؤخرا، توقف فيها عند الزيادة المخيفة في حجم سكان قطر وتدني نسبة المواطنين بشكل متسارع، بسبب محاكاة نموذج دبي في الاستثمار العقاري، حيث تخطط قطر لبناء 800 برج تم اكمال خمسين منها، ومئة وخمسون قيد الانشاء. وكشف ان عدد سكان قطر قفز من 560 الف نسمة عام 1993 الي مليون ونصف المليون في عام 2008 من بينهم 240 الف مواطن، اي 16 في المئة فقط.
المشكلة تكمن في تجاهل معظم حكام الخليج لهذه الأزمة، ومحاولة اخفائها بكنسها تحت السجاد، لانهم لا يريدون التفكير فيها، ومحاولة ايجاد حلول جذرية لها، وبات الهدف الاساسي هو تكديس المليارات في البنوك من جراء الطفرة العقارية. فهناك حالة تنافس مرضية علي جمع المليارات والتباهي بأن زيدا يملك منها اكثر من عمرو.

هناك مثل انكليزي يقول انه اذا وقع الانسان في حفرة فإن اول شيء يجب ان يفعله هو التوقف عن الحفر، ويبدو ان معظم المسؤولين في دول الخليج يعملون عكس هذا المثل/النصيحة، ويستمرون في ردم البحر، وبناء المزيد من الابراج والمشاريع الاسكانية، واستيراد شعوب من الهند وغيرها لشغلها، دون اي اهتمام حقيقي للآثار السلبية الناجمة عن هذا العمل علي البلاد وهويتها واستقرارها.
انتفاضة العمال الهنود في دبي قبل بضعة اشهر وتظاهر اكثر من اربعين الفا منهم في منطقة جبل علي الحرة احتجاجا علي اوضاعهم المعيشية المزرية، وتأخر رواتبهم علاوة علي تدنيها، كانت بمثابة جرس الانذار لما يمكن ان يحدث في المستقبل في هذا البلد الذي يبدو سعيدا براقا من الخارج. كما ان تدخل السفير الهندي وتهديده بعظائم الامور اذا جري ترحيل هؤلاء المضربين او بعضهم، مثلما هدد وكيل وزارة العمل في تصريحات اضطر للتراجع عنها لاحقا، ينبئ بتدخلات عظمي لحماية هؤلاء الرعايا وحقوقهم. فالهند ستصبح احدي القوي العظمي الرئيسية في العالم بعد عشرة اعوام.
ومن المفارقة ان دول الخليج، بما تملكه من طفرة مالية هائلة بسبب ارتفاع اسعار النفط (700 مليار دولار سنويا) تستطيع ايجاد الحلول السحرية لكل المشاكل، ابتداء من زحمة المرور ومرورا بانشاء شركات طيران ضخمة وانتهاء بالحكومات الاليكترونية، ولكنها تقف عاجزة تماما عن ايجاد حلول للتركيبة السكانية، لانها تنظر الي الوراء محكومة بعقدة الجنسية وترفض التخلص منها والنظر الي المستقبل بطريقة حضارية وعلمية.
اقامة المهرجانات والمسابقات، ورصد الجوائز، وتشجيع النشر والترجمة الي العربية من الامور الجيدة، ولكنها لا تخفي حقيقة اساسية وهي ان القراء العرب يتناقصون بشكل مرعب امام طوفان الاجانب (200 جنسية) فالصحف العربية المحلية تتراجع مبيعاتها، بينما الصحف الناطقة باللغات الاردية او الانكليزية في ازدهار مضطرد. وقبل يومين انطلقت في ابوظبي احتفالات نشر صحيفة جديدة باللغة الانكليزية بميزانية ضخمة توازي ميزانيات عدة صحف عربية مجتمعة.

نختلف مع الفريق ضاحي بان الرئيس المقبل قد يكون يلبس احدي العمامتين، الهندية او الايرانية، سواء كان ذلك بالانتخاب في حال فرض التجنيس وقيم الديمقراطية والمساواة، او بتمدد الهيمنة الايرانية الي السواحل الغربية من الخليج العربي.
المستقبل الخليجي محفوف بالغموض والمخاطر معا، بسبب السياسات القاصرة لبعض حكامه المتمثلة في الرعب من مسألة التوطين الحميد ، خاصة في ظل طفرة مالية كفيلة بتعويض السكان الاصليين الذين عاشوا شظف العيش، وشربوا الماء العكر، واعتاشوا علي لبن الإبل قبل النفط. فأحد هؤلاء قال لي ان اول ما يفعله المتجنس هو وضع الجواز الاحمر في جيب (دشداشته) والذهاب الي بنك الاسكان لطلب القروض. ولماذا لا، ألم يصبح هذا مواطنا له حقوق المواطنة كاملة؟
هناك ثلاثة خيارات امام حكام هذه المنطقة، الاول هو الحفاظ علي هويتها العربية، بالتوسع في تجنيس العرب (البحرين نموذجا) او تبني النموذج الماليزي الديمقراطي اي اعطاء حقوق متوازية للجميع، ودمج الجاليات الهندية والصينية وتحول السلاطين المسلمين الي ديكورات يتناوبون السلطة بشكل دوري في بعض المناطق، او النموذج الثالث وهو نموذج سنغافورة، اي تحول المسلمين الي اقلية الاقلية وتبني هوية تعددية عرقية وثقافية علي غرار النموذج الامريكي والكندي والاسترالي.
الفريق ضاحي خلفان قال جملة مرعبة تلخص الموقف برمته عندما قال في كلمته امام مؤتمر الهوية الوطنية نبني عمارات.. ونخشي ان نفقد امارات ، اعتقد ان الاثنين سيستمران، اي بناء العمارات وفقد الامارات في الوقت نفسه، وربما جاءت صرخته متأخرة جدا، فقد اتسع خرق التركيبة السكانية على الواقع.

ليست هناك تعليقات: