السبت، يناير 17

رِسَالَةٌ مِنْ لَلَّا عْبُوشْ الى مِشْتْر بُوشْ

بقلم : فؤاد وجاني

رأيت في مايرى الرائي خيرا وسلاما، في ليلة مقدارُها ربع أو نصف الليل ممَّا تَعُدُّون ، سوداء كسواد شعر الصَّلعان ، رأيت امرأة عجوزة حدباء ، أكل الدهر أسنانها وقوصت الأيام ظهرها ، تدعى " لَلَّا عْبُوشْ " . تسكن بلاد ماقبل بحر الظلمات شمال جزيرة المساكين وشرق خليج المحرومين بين قارة العُريان ووطن البهتان في خريطة المفقودين للعالم الجغرافي الإبليسي . كانت العجوز خَبة لَبة ، وداهية فطِنة، تركب حمارا أمريكيا منَقَّطاً، مُغْبرَّ الرأس ، منتتفَ الشعر ، ذا ذنب كبير وصوت نكير ينهق ولايفقه ويسمن ولايفطن .
كانت لَلَّا عْبُوشْ جادة عبيسة نشيطة بسيطة ، لاتكل ولاتمل، تُعِدُّ الشوك شَبُوباً للنار في مطبخها، وتُورد النوق الظمآى للبئر في أرضها . وبينما كنت غارقا في سباتي بل لم أكن أعلم حياتي من مماتي ، ضربتني لَلَّا عْبُوشْ بعصاها الغليظة فوق رأسي، وقالت لي بصوتها الذي يشبه محرك سيارة جاري المعطلة : انهض يانائم بن يقظان، وشدَّ رحالك، وفُكَّ لسانك، لتحمل رسالتي هاته الى ماوراء بحر الظلمات، الى حفيد آل تعسان ، مشتر بوش النعسان، أغبى الإنس والجان. وبالغ في تبسيط رسالتي حتى يفقه قولك. وأكثر من شرح مقالتي حتى يعلم قصدك. فوالله الذي خلق الدابة وخلقه، لهو أشبه شكلا وأضعف عقلا من حماري المنقط هذا، وقل له :
"بسم الله الرحمن الرحيم وأعوذ بالله منك ومن كل شيطان رجيم، من لَلَّا عْبُوشْ الغنية بذكر الله في بلاد الفقراء والمساكين الى الضال المغضوب عليه مشتر بوش حفيد السفهاء والفاسدين.
أما قبل،
اصغ الى كلام الأدباء يامن يجهل أحرف الهجاء ، أُسْمِعكَ العجبَ العُجاب يا خليفة الكلاب. وتمعن و|ن كنت كالثلجِ تقتبس منه ناراً ، و كالحمار يحملُ أسفاراً. واعلم أن رسالتي هذه كلام مكتوب ونص مخطوط ، فلاتحسبنه عشبا أو برسيما فتبلعه، فإن بلعت فلن تهضمه ، وإن هضمت فلن تفهمه.
وصلتني أخبارك وجاءتني أنباؤك طوال فترة حكمك، والله خير الحاكمين. والحاكم في دستور العقلاء وشرع الحكماء من حكم عقله، وقضى بين الناس بالعدل ، ولم يتواطأ عليهم بالقتل، ونفعهم في معاشهم، وأفادهم في معادهم . وإني قد بحثت في تاريخ الرؤساء وسيرة العظماء، فلم أجد مثل ماسمعته عنك من الشتائم القبيحة والألقاب المهينة والذكرى الرديئة. ولم أعثر على حكم طغى فيه الصالح على الطالح مثل ماوجدت عندك، وإن كان العيب ليس منك ولكن العيب على من حكموك بينهم . وكذبت على محكوميك وتواطأت مع بطانتك، فاختلقت أزمة الشهر التاسع من تقويمكم الميلادي من سنتكم الأولى بعد الألف الثانية، وأدخلت جيشك حربا ضروسا بل كابوسا عبوسا في بلاد مابين النهرين دون علم أو شجاعة، فأهلكت النسل وأضعفت الحرث .
لقد أضحكْتَني يامشتر بوش حين علمت بنيتك في احتلال نخيل بغداد. فوالله لست بنائلها ولوصارت حلاوة تمرها مرارة . ألاتعلم يامشتر بوش أن أجدادي في العراق حددوا التقويم السنوي واعتمدوا الخدعة في الحروب حين كان أسلافك لايزالون ينطون فوق الشجر .
و فررتَ فرار القط من الأُسْدِ الى خراسان لتقضي على ذرية الإنسان، فوجدت ضربا آخر من السباع تلبس جلود النمار عسيرٌ صيدُها هالكٌ عدوها، تأبى إلاأن ترقص في زينة وخيلاء تحت وقع المعارك والقتال بأطواد الجبال .
ثم تحالفت مع عشيقتك إسرائيل في سرير المبغى العربي ضد لبنان الجِنان فحللت أهلا بريح العاصِفِ والقاصِفِ، وضد غزَّة البنَان فوطأت سهلا ملغوما بعذاب الصَّرْصَر والعَقيمِ .
لن أطيل الحديث يامشتر بوش فأنا امرأة كهلة، عاصرت من الحكام قبلك عددَ ذهابي الى الخلاء، فوجدتك أكثرهم نجاسة وتبرزا حتى سد العالَم أنفه من كره روائح فعلاتك . ولاأحسبن الله يزيد في عمري هذا بعد سنتي هذه، لهذا كتبت لك هذه الدعوة وأنت تغادر البيت الذي سوَّدته علَّك تتشرف بالحلول محل حماري المنقط ، فتحمل الكلأ والماء وتحرث الأرض وأركبك ، فقد يغفر الله لك بعض ذنوبك ويمسح عنك بعض جرائمك بعد أن تتحول حمارا قَلْباً وقالباً ومقلوباً. وَوَعْدٌ مني اليك لن أخْلِفَه ، بأن لاأضربك بالجزمة القديمة بل بعصاي التي أهش بها على غنمي . وأسرع في ردك ، إن حماري ينتظر نهيقك بفارغ الصبر."
هنا انتهت الرؤيا واختتمت لَلَّا عْبُوشْ كلامها ، وهاأنذا أشهدكم أني بلغت رسالتها فماعاد رأسي يحتمل لغتها الفصيحة ولا عصاها الغليظة. وسبحان من خلق الحمير وخلق أمثالها .

الخميس، يناير 15

تل الزعتر

للشاعر الكبير : مظفر النواب


هذي الأرض تسمى بنت الصبح
نساها العرب الرحل عند المتوسط
تجمع أزهار الرمان
وساروا باديتين
ولما انتبهوا وجدوا كل سقوط العالم فيها
قالوا مرثية
أيهم الميت أن القبر يزخرف
أم تكترث الشاة لشكل السكين
نشاز مكتمل هذا
ثدي في الأرض
إلى جانب كفين صغيرين كأوراق الكرمة
طفل يكبر بين الجثث المحروقة
قولوا يا عرب الردة مرثية
أيهم الميت أن القبر يزخرف
أم تكترث الماعز للحقل إذا حضر الذبح
ماذا يطبخ تجار الشام على نار جهنم
إن الطاعون قريب
أول ما يظهر نجم مثقوب
قلق ..... يرسل أضواء مهلكة
وتضيء محاجر جمجمة
تلعب فيها الريح بتل الزعتر
إن تراب العالم لا يغمض عيني جمجمة
تبحث عن وطن
منذ قليل سقطت عاصمة الفقراء
صنوج العنة قد ضربت حتى البيت الأبيض
خصيان العرب الحكام إرتجفت شرفاً
أبناء الكلب هنا
صرخ الكرش الأشقر ... أردى طفلا
سحب البزازة دامية من فمه وازدان بها
أبناء الكلب هنا ... يعني بالضبط هنا
جمد الأطفال
وقد ذهب البؤس بكل ملامحهم
وقف الله مع الأطفال الوسخين
فعاصمة الفقراء لقد سقطت
حاول طفل أن يسـتـر جثة جـدته
فمن المخجل أن تعرض أفخاذ الجدة
أردوه على فخـذيها
لا بأس بني فذاك غطاء
هل تلد المرأة في الخيمة إلا جيشاً ؟ أولاد الوسخة
أولاد فلسطين... سوف تعودون الى أرض فلسطين ولكن جثثا
نظر الأطفال إلى الوطن العربي
خصيان العرب الحكام إرتجفت شرفاً
صرح نفط ابن الكعبة أن يعقد مؤتمرا
لسنا في زمن التفكير
سيأتي ذلك.. يأتي ذلك... يأتي ذلك
والجوكر في اللعبة أضحى معروفا
بلاع الموسي كذلك
كيف يغيب النخر عليكم ؟
يا أهل الفطنة بالنخر لقد سقطت عاصمة الفقراء
وقيل قديما مأرب بالجرذ لقد سقطت
نسقا والنسوة يرفعن أياديهن ويمشين فرادى
والحامل تكشف بيت أنوثتها
طرحوا الحامل أرضا
سحبوا رحماً يتكون فيها في الليل فدائي
أسمعتم عرب الصمت
أسمعتم عرب اللعنة
لقد وصل الحقد إلى الأرحام
أسمعتم عرب اللعنة
إن فلسطين تزال من الرحم
دعاة الدين الأمريكي بمكة
والسوق عليها في الأوج
مزاد علني يا أشراف
ثلاثون قتيلا في الساعة يا اشراف
ثمانون على تجار الشام
ثمانية وثمانون على تعطيل الدستور كويتيا
تسعون على ملك النفط
التفتوا أولاد الوسخة من أبطأ لفته الصلية
صمت... صمت... صمت
ما هذا الصمت يسمى في اللغة العربية

أنهار البهجة
غارت في الليل سريعا
رفست الجسد الواحد للأطفال
تراب العالم أعلن عن وحشته
لم يكف الحقد
سمعنا الصلية ثانية
نال الله من الأرض
وأمعاء الأطفال على كفيه الضارعتين
بكى في الليل بكاء خشنا وتوسل بالناس
يعودون إلى تل الزعتر
فالله كذلك من عاصمة الفقراء
وهؤلاء الجيران تعودهم
وتعود أن تنشر بين الخيمة والخيمة في الصبح ملابسهم
كان يلم ملابسهم أحيانا
لا تقتربوا ... لا تقتربوا
لحم الأطفال سيلعب والغميضة شاملة
هذي اللعبة لا يقطعها أحد أبدا
خصيان الردة قد كبرت
أسمعتم... أسمعتم
أسمع صوت الشعب الغاضب في لحمي
لا تقتربوا... لا تقتربوا... لا تقتربوا
ماذا ثمن الطفل الواحد
ماذا ثمن الغمازة
ماذا ثمن العينين الضاحكتين صباحاً
ماذا ثمن الحمل الطيب في زاوية الخيمة
والردات على الأبواب
ماذا ثمن الشفتين مناغاةً وحليبا
كلا... كلا... كلا
لا تقتربوا
لحم الأطفال سيلعب والغميضة شاملة
للقاتل شيء آخر غير القتل
كم القتل قليل في هذا الموضع
عشرون على لحية قابوس
مزاد علني
سبعون على أسد العلم الإيراني
مزاد علني يا سادة....هيا
تسعون على مؤتمر القمة
أوراق التوت لقد سقطت
نزل الأشراف من القمة بالعورات علانية
بينهم الصامت بالله يغطي عورته
أكثرهم خجلا كان المأموث
جماهير الصمت تغض الأنظار ... هذا خجل
لا تقتربوا أكثر من ذلك
فالمذبحة الآن مشوهة
جثث الأطفال بلا فرح
وأميز رائحة الرضع
والخرز الأخضر يورق في اللحم المحروق
أكانوا قبل قليل حقا أطفالاً
لا تدعوا أي صغير يذهب من هذا الدرب
سيبتسم اللحم المحروق له
إن كنيسة شربل تحرق أطفالا
هذا اللحم يفوح دخانا ورديا
يصبغ خد الدين بحمرته... ابتعدوا
ابتعدوا...
ابتعدوا...
ابتعدوا خطوات أخرى
خلوا الأضواء وخلوا تل الزعتر يعتاد الظلمة
لم يحن الوقت
عاصمة الفقراء لقد سقطت
لن أبكي أبدا من قاتل
لن أبكي إطلاقا
أبكي من يبحث في القمة عن دولته
نزل الشرفاء من القمة
آثار سحاق في جبهتهم
أكثرهم خجلا كان المأموث
رأيتم أحدا يحمل قرناً منقرضاً
ألقوا القبض عليه
فذاك ملك القوادين جميعا
غاص بوحل الردة إلا رأس القرن فظلت بارزة
وسخ كل الظلفيات الوطنية
وحلها جعل الردة شاملة... وحد أعلام الردة
أصحاب الأظلاف اجتروا فالظلمة قاسية
هذا ليل عربي ...
والمذبحة انطفأت توقيتا قبل القمة
أتهم المأموث النجدي وتابعه
ديوث الشام وهدهده
قاضي بغداد بخصيته
ملك السفلس
حسون الثا ني
جرذ الأوساخ المتضخم في السودان
والقاعد تحت الجذر التكعيبي على رمل دبي
مشتملا بعباءته
وكذاك المعوج بتونس من ساقيه إلى الرقبة
أستثني.. أستثني المسكين برأس الخيمة
كان خلال الأزمة يحلم
والشفة السفلى هابطة كبعير
والأنف كما الهودج فوق الهضبة

السبت، يناير 3

اسرائيل والمعركة الخاسرة




بقلم: فؤاد وجاني

منذ مايقارب القرن ، صرح تشرتشيل أكبر داعمي ومؤسسي الحركة الصهيونية بفلسطين عن عجز العرب عن تطوير منطقة فلسطين وإمدادها بالكهرباء والماء ووصفهم بالتخلف قائلا: "قيل لي إن باستطاعة العرب القيام بذلك بأنفسهم . من سيصدق ذلك؟ لوترك عرب فلسطين لشأنهم لمدة ألف عام، لما اتخذوا خطوات فعالة في سبيل توفير الري والكهرباء في فلسطين. ولاكتفوا فرحين بالإستقرار في السهول الجرداء المحروقة بالشمس تاركين مياه نهر الأردن تواصل التدفق دون قيد أو تسخير نحو البحر الميت".
لاشك أن في أقوال تشرتشيل تحيز ا عظيما للكيان الصهيوني . كيف لاوهو القائل:"العرب أناس متخلفون لا يتناولون سوى روث الجمل".
لكن في قوله بعضا من الحقيقة التي قد لانقبلها كعرب ومسلمين. فمنذ سنة 1492 ، والعرب يتكلمون ويقسمون ويهددون ويتوعدون ولاأثر لهم سوى الصياح والتنديد والعويل. و التاريخ شاهد على ماأقول ، وهو الدليل الراسخ في ذاكرة الشعوب والأمم يرسم دورات الزمن التي تكررت وسوف تتكرر في المسقبل. ولاحاجة لسرد المزيد من العبر التي مرت بنا خلال القرون الماضية .
يمكن القول إن نجاحات إسرائيل ليست بالضرورة مبنية على عبقرية أفرادها، بل على عجز العرب والمسلمين و ملأ الفجوات التي تركوها فارغة . لقد استطاعت اسرائيل أن تبني لها دولة في عقر دار العرب، بل في أقدس الأماكن وأطهرها عندهم . وحصنت نفسها بالتحالف مع الإمبرياليات البريطانية والأمريكية، بل توغلت داخل السلطات التشريعية ونصبت نفسها مشرعا بهاتين الدولتين عبر مؤيدين ومرشحين صهيونيين يدعمونها قبل دعم أفراد الشعوب التي يمثلونها. فهاهي اليوم مثلا، تضمن لنفسها تمويلا سنويا غير مشروط من الحكومة الأمريكية لمدة عشر سنوات أخرى مقداره ثلاثة مليار سنويا من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين ، علما أن الشعب الأمريكي أحوج اليوم في هذه الأيام من غيرها لهذه النفقات ، ولواستعملت استعمالا راشدا لحلت بعض المشاكل الإقتصادية والإجتماعية التي يتخبط فيها المواطن الأمريكي كمعضلة التغطية الصحية مثلا.
تلك الإعانات والمنح المالية التي بدأت كقروض ليحولها المشرعون الصهاينة داخل الكونغرس الأمريكي الى إعانات . ولاتكتفي اسرائيل بأموال الفائدة التي تدرها عليها المؤسسات المالية حول العالم، بل تعتمد أيضا على الشركات الاستهلاكية ـ كستارباكس وبتزا هات وفيليب موريس وجونسون أند جونسون واللائحة طويلة ـ وبعض شركات النفط التي تخصص جزء ا وفيرا من عائداتها لدعم المشروع الصهيوني. حملة الدعم الصهيونية هذه تشمل ممثلي هوليود وأثرياء العالم ومن ضمنهم بعض العرب "المسلمين" والكثير من المؤسسات الخيرية . بل إن الكيان الصهيوني توصل منذ معاهدة لوكسمبرغ سنة 1952 بمبالغ طائلة من الحكومة الألمانية وريثة عهد هتلر آنذاك تعويضا لضحايا مايسمونه ب"المحرقة اليهودية".
وقد سخرت إسرائيل هذه الأموال الطائلة في الإستراتيجية العسكرية عبر امتلاك أحدث ترسانة عسكرية معظمها من أسلحة أمريكية الصنع و معدّات أمريكية يتم تسليمها تحت بند برنامج المساعدات العسكرية الامريكية. فاسرائيل تمتلك 226 طائرة امريكية من نوع "أف-16" المعدّلة و الطائرات الهجومية الأخرى. و تمتلك 89 طائرة قتالية من "أف-15" وأزيد من 500 دبابة "أم-60"، وأكثر من 6 آلاف ناقلة جند مصفّحة و عدد غير محدد من طائرات النقل العسكرية، و المروحيات القتالية ، والقنابل، والصواريخ بمختلف الانواع .
أما على الصعيد الفكري والثقافي ، فعلى الرغم من صغر حجم إسرائيل ، استطاعت فرض هيمنتها الإعلامية والفكرية والثقافية على العالم عبر الصحف والكتب والقنوات الإذاعية والتلفزية والإنترنت والتكنلوجيا الحديثة. فكان من أهم منجزات نهجها الإعلامي : إعادة كتابة التاريخ العالمي بمنهج يخدم المشروع الصهيوني ، وفرض قوانين دولية كقانون معاداة السامية ، واستغلال صورة الضحية التي عانى شعبها بالأمس من ويلات "محرقة هتلر" في الحصول على تعاطف الغرب . ولعل أبرز نجاحاتها يكمن في اقتحام شخصية العدو ـ شخصية الفرد العربي ـ عبر تجريده من لغته واستبدالها بالعامية، وتغريبه عن هويته العربية، وإبعاده عن جذوره الإسلامية عن طريق إشباعه بالإيديولوجيات الغربية والعلمانية والإشتراكية والشيوعية والليبرالية والرأسمالية واستبدال مفاهيم العدل والمساواة بالديموقراطية والحرية اللاأخلاقية وسطوة النفوذ والمال على مقوماته الحياتية.
في فترة مابعد الإحتلال ، نجحت الحركة الصهيوينة في استخدام الغرب المستعمر كأداة لتثبيت فكر القومية العربية مستغلة غياب التعليم في الوطن العربي آنذاك وسيادة الجهل ، فارتكز الحكم على العصبية كما كان الشأن عليه بالنسبة للدول التي تعاقبت على حكم العرب منذ سقوط الخلافة الإسلامية في الأندلس. فاستطاعت احتقان حركات المقاومة التي نحجت في طرد المستعمر الفرنسي والبريطاني والإسباني والإيطالي، واحتضانها تحت قبضة القوميين العرب كحركتي عمر المختار وعبد الكريم الخطابي في شمال إفريقيا . بل إنها شجعت ـ بيد المستعمر ـ بعض التيارات الإسلامية ـ كالتيار الوهابي في الجزيرة العربية ـ لتميل الى العنف اللامشروع والطائفية الدينية. وفي الوقت ذاته حثت على التنوع الديني والطائفية وتعدد المذاهب كالصوفية والتشيع واليزيدية والصابئة والمندائية وغيرها.
أضحت اسرائيل اليوم شريكة السلطة العربية ـ صنيعة استعمار الأمس ـ في اتخاذ القرار. وقد بات واضحا أن استمرار جل القيادات العربية بسدة الحكم رهين باستمرار اسرائيل وزيادة نفوذها، خاصة وأن جلها لاتعبر عن خيار الشعب وإرادته. ويزداد تواطؤ الحكومات العربية ويشتد التدخل الصهيوني في الدول العربية المجاورة لفلسطين ، حيث حازت اسرائيل على الإعتراف من هذه الدول ، ووقعت اتفاقيات سلام ضمانا لحزام أمني يحميها من غضب واستنفار الشعوب ، ويجعلها تتفرغ لتصفية فلسطين من المقاومين.
قد تلزم كتابة مجلدات تتطرق لماحققته وقامت به الحركة الصهيونية منذ بداية القرن الماضي الى غاية اليوم . لكننا سنكتفي بالقول بأن اسرائيل صنعت دولة قوية عبر تأطير محيط استراتيجي وسياسي وتاريخي وعسكري وإعلامي.

هناك جانبين مهمين بل حيويين جدا فشلت فيهما اسرائيل . الأول هو التاطير البشري ، فصحيح أنها نحجت في استقطاب يهود أوربا الشرقية واليهود الأفارقة وصهاينة العالم التواقين الى وطن يضمهم وراية تجمعهم، إلا أن العنصر البشري يظل نقطة الضعف السوداء في سجلات الولادة الإسرائيلية. فتعداد الساكنة الإسرائيلية لايتعدى سبعة ملايين وأربعمائة ألف نسمة ، وعدد اليهود في تراجع مستمر حول العالم .
الضعف الثاني يكمن في غياب المواطنة الحقيقية لدى الفرد الإسرائيلي، حيث أنه وليد هجرة حديثة ووطن مستحدث يغيب عنه الأمن ويسيطر عليه الخوف . المواطن الإسرائيلي يفتقد الى التأطير الروحي والوطني، حيث جاء لينعم بالرفاهية لكنه يعلم أن الأرض التي يطؤها صامدة بفعل القوة وليس بفعلي الأمن والإستقرار. وقد اتخذت اسرائيل إجراءات شتى للتخفيف من وطأة غياب أهم مقومات الوطن : الشعور بالأمن ، فجعلت التجنيد أمرا إجباريا، وحثت على الزواج بين اليهود. كما أن الديانة اليهودية لم تستوعب النهضة الصهيونية ولم تواكبها ، بل ساهمت في إضعاف مقومها البشري. فهي مازالت تتسم بالإنكفاء والإنغلاق على الذات، وغياب دعوة غير اليهود للإعتناق ، والإرشاد الى حفظ العرق من الإختلاط، وتبني نظرية شعب الله المختار . كل ذلك ساهم في زيادة إضعاف الموارد البشرية للكيان الصهيوني. اضف الى ذلك تعدد الطوائف اليهودية وانقسامها على حالها، مما يضعف إطار الدولة الروحي الذي لابد منه لإقامة الدول. حيث ترى بعض الطوائف اليهودية الأرثوذكسية أن قيام الدولة الإسرائيلية يخالف الشرائع الإلهية والتوراة الحقيقية التي حكمت على شعب النبي موسى بالعيش في المنفى تحت سلطة دول يحكمها غير اليهود . أما اليهود الإصلاحيون فيلجأون الى التشكيك بالتلمود ووصفه بأنه عمل بشر وليس بوحي ، ويركزون على الجانب الأخلاقي والسلوكيات كأساس للدين اليهودي متجنبين الكتب المقدسة. بينما يرى اليهود المحافظون وجوب تفسير النصوص المقدسة على ضوء المعارف الحديثة مع ممارسة العادات اليهودية والإيمان بالتوراة والتلمود. كل هذه الإنقسامات الدينية تتم في نفس الوقت الذي يزداد فيه عدد الشباب اليهوديين الذين يديرون ظهورهم للدين .
وعلى الضفة الأخرى ، نجد العرب والمسلمين الطرف الأضعف عسكريا وماليا وإعلاميا واستراتيجيا. ولست هنا أتحدث عن أسر حاكمة أو رؤساء أو حكومات بل عن الشعوب العربية الخاضعة لأمر واقعها المنهزم.
العنصر البشري هنا أقوى ، فتعداد العرب يناهز أربعمائة مليون نسمة محيطها العقائدي يخيف العالم بأسره. فأسس التأطير الأخلاقي والديني والتربوي موجودة وحاضرة لكنها غير مفعلة .
فهاهو توني بلير يعلن مؤخرا : "كنت أقرأ القرآن بانتظام ، كل يوم تقريبا". ويعترف أن النبي محمد كان "على قدر عظيم من القوة الحضارية".
لقد استشعر الغرب خطورة مقومات الإسلام: القرآن والسنة ، خاصة بعد أحداث مطلع هذا القرن. فلم يعد يتعامل مع "أناس متخلفين" على حد زعم تشرتشيل قبل مايزيد عن تسعين سنة بل مع قوام حضارة غابت منذ مايزيد عن سبعة قرون وقد تصحو في ضمائر وعقول معتنقيها في أي وقت وحين.
إن مايحدث في غزة ـ بينما أخط هذه الحروف ـ لأكبر دليل على فعالية أخلاقيات الدين الإسلامي في أصغر بقعة على الخارطة الإسلامية صمد أهلها وضحوابأنفسهم وأموالهم وأولادهم ونسائهم وشيوخهم رغم الحصار والنعت بالإرهاب والقصف اليومي، علما أن بمقدور حركة حماس النطق بكلمة واحدة قد تخلصها وتنجي أهل غزة من المذبحة، ألا وهي الإعتراف بالكيان الصهيوني .
إن معادلة الإيمان بالجنة والنار والغيبيات والمسؤلية أمام إله واحد عظيم في يوم يسمى بالحشر تجعل من الهزيمة المادية انتصارا روحيا، ومن الموت الدنيوي حياة في الآخرة . إنها المعادلة الإيمانية التي تغيب لدى الطرفين الصهيوني والغربي وتجعل معركتهما خسارة قبل بدايتها لأنها تفتقد الى المعطى الروحي.
إن الحضارة الغربية اليوم في ضائقة كبيرة اسمها الإسلام، ضائقة تعلم تابعيها التزام أدبيات المقاومة والصمود والتطلع الى حياة شريفة قبل وبعد الموت. فلم تفلح الحركة الصهيونية ولا الغرب في ترويج سلعة الإرهاب وإلصاقها بحركات النضال والمقاومة الصادقة، ولم تفلح في تشديد الحصار الإقتصادي وشد الخناق عليها استراتيجيا ، ولم تخفها الطائرات العمودية والمقاتلة وأسلحة الدمار ، لأن سلاح المقاومة يقين داخلي بالنصر مهما طال الزمن ومهما كانت النتائج. بينما لوفعلت حماس بتل أبيب مافعلت إسرائيل بغزة، لأصبحت إسرائيل خاوية على عروشها ولفر أهلها من حيث لارجعة.
وتبقى الشعوب العربية المسلمة مكبلة الأيدي حائرة، وهي التي تملك أكبر سلاح تتمناه الدول العظمى ألا وهو القوة الروحية . إن القضاء على الطغيان الصهيوني يبدأ من النفس أولا ، من موقع التراب الذي نطأه كل يوم ، فالصهيونية في مجلس البرلمان العربي الذي يتخذ القرارات نيابة عن الشعب، وفي بطانة السدة الحاكمة التي تعض على الكرسي منذ عقود، وفي الرضا بالذل والهوان تحت إمرة الدكتاتوريات، وفي خطيب الجمعة الذي يصمت عن الحق ، وفي العالم الذي يدق باب السلطان بدل أن يدق السلطان بابه، وفي القاضي الذي يحكم بهواه وهوى الناس، وفي الرشوة التي يتقاضاها العامل والشرطي ووالي المدينة، وفي التقاعس عن طلب العلم وخوض معركة البناء الحضاري، وفي التبعية العمياء لغير الحق ، وفي الجبن والتخاذل عن نصرة المظلومين، وفي الاستسلام لغير العدل والمساواة ، وفي الخضوع لمناهج تعليمية لاتمت لهويتنا بصلة، وفي الإنتقاص من لغة الضاد وترسيم لغات الغرب، وفي إهانة المواطن العربي والمسلم وتضييع حقه بدلا من الرفع من قدره وتعزيز شأنه.... واللائحة طويلة مسترسلة تبدأ من أول نفس حين الولادة حتى آخر شهقة حين الإحتضار.
خلاصة القول ، معركة اسرائيل خاسرة منذ بدايتها لأنها تحارب الموت ، ولايحارب الموت عاقل. وكذلك مصير معاركها القادمة سواء مع حماس أو غيرها من الحركات التي تتبنى نهجا روحيا يتوخى العدل والحق . فلاكلمة تعلو على الحق، والحق يعلو ولايعلى عليه، والحق كل الحق أن تثور الشعوب المسلمة ضد الصهيونية القابعة داخل ترابها وحدودها من أجل التحرر والإمساك بنواصب الأمور قبل إقدامها على مناصرة غزة وأهلها ، فأهل غزة أثبثوا للعالمين أنهم أقوى من شعوب الأرض مجتمعة وأقلهم حاجة لنصرة من هم أضعف.

الجمعة، يناير 2