بقلم: فؤاد وجاني
منذ مايقارب القرن ، صرح تشرتشيل أكبر داعمي ومؤسسي الحركة الصهيونية بفلسطين عن عجز العرب عن تطوير منطقة فلسطين وإمدادها بالكهرباء والماء ووصفهم بالتخلف قائلا: "قيل لي إن باستطاعة العرب القيام بذلك بأنفسهم . من سيصدق ذلك؟ لوترك عرب فلسطين لشأنهم لمدة ألف عام، لما اتخذوا خطوات فعالة في سبيل توفير الري والكهرباء في فلسطين. ولاكتفوا فرحين بالإستقرار في السهول الجرداء المحروقة بالشمس تاركين مياه نهر الأردن تواصل التدفق دون قيد أو تسخير نحو البحر الميت".
لاشك أن في أقوال تشرتشيل تحيز ا عظيما للكيان الصهيوني . كيف لاوهو القائل:"العرب أناس متخلفون لا يتناولون سوى روث الجمل".
لكن في قوله بعضا من الحقيقة التي قد لانقبلها كعرب ومسلمين. فمنذ سنة 1492 ، والعرب يتكلمون ويقسمون ويهددون ويتوعدون ولاأثر لهم سوى الصياح والتنديد والعويل. و التاريخ شاهد على ماأقول ، وهو الدليل الراسخ في ذاكرة الشعوب والأمم يرسم دورات الزمن التي تكررت وسوف تتكرر في المسقبل. ولاحاجة لسرد المزيد من العبر التي مرت بنا خلال القرون الماضية .
يمكن القول إن نجاحات إسرائيل ليست بالضرورة مبنية على عبقرية أفرادها، بل على عجز العرب والمسلمين و ملأ الفجوات التي تركوها فارغة . لقد استطاعت اسرائيل أن تبني لها دولة في عقر دار العرب، بل في أقدس الأماكن وأطهرها عندهم . وحصنت نفسها بالتحالف مع الإمبرياليات البريطانية والأمريكية، بل توغلت داخل السلطات التشريعية ونصبت نفسها مشرعا بهاتين الدولتين عبر مؤيدين ومرشحين صهيونيين يدعمونها قبل دعم أفراد الشعوب التي يمثلونها. فهاهي اليوم مثلا، تضمن لنفسها تمويلا سنويا غير مشروط من الحكومة الأمريكية لمدة عشر سنوات أخرى مقداره ثلاثة مليار سنويا من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين ، علما أن الشعب الأمريكي أحوج اليوم في هذه الأيام من غيرها لهذه النفقات ، ولواستعملت استعمالا راشدا لحلت بعض المشاكل الإقتصادية والإجتماعية التي يتخبط فيها المواطن الأمريكي كمعضلة التغطية الصحية مثلا.
تلك الإعانات والمنح المالية التي بدأت كقروض ليحولها المشرعون الصهاينة داخل الكونغرس الأمريكي الى إعانات . ولاتكتفي اسرائيل بأموال الفائدة التي تدرها عليها المؤسسات المالية حول العالم، بل تعتمد أيضا على الشركات الاستهلاكية ـ كستارباكس وبتزا هات وفيليب موريس وجونسون أند جونسون واللائحة طويلة ـ وبعض شركات النفط التي تخصص جزء ا وفيرا من عائداتها لدعم المشروع الصهيوني. حملة الدعم الصهيونية هذه تشمل ممثلي هوليود وأثرياء العالم ومن ضمنهم بعض العرب "المسلمين" والكثير من المؤسسات الخيرية . بل إن الكيان الصهيوني توصل منذ معاهدة لوكسمبرغ سنة 1952 بمبالغ طائلة من الحكومة الألمانية وريثة عهد هتلر آنذاك تعويضا لضحايا مايسمونه ب"المحرقة اليهودية".
وقد سخرت إسرائيل هذه الأموال الطائلة في الإستراتيجية العسكرية عبر امتلاك أحدث ترسانة عسكرية معظمها من أسلحة أمريكية الصنع و معدّات أمريكية يتم تسليمها تحت بند برنامج المساعدات العسكرية الامريكية. فاسرائيل تمتلك 226 طائرة امريكية من نوع "أف-16" المعدّلة و الطائرات الهجومية الأخرى. و تمتلك 89 طائرة قتالية من "أف-15" وأزيد من 500 دبابة "أم-60"، وأكثر من 6 آلاف ناقلة جند مصفّحة و عدد غير محدد من طائرات النقل العسكرية، و المروحيات القتالية ، والقنابل، والصواريخ بمختلف الانواع .
أما على الصعيد الفكري والثقافي ، فعلى الرغم من صغر حجم إسرائيل ، استطاعت فرض هيمنتها الإعلامية والفكرية والثقافية على العالم عبر الصحف والكتب والقنوات الإذاعية والتلفزية والإنترنت والتكنلوجيا الحديثة. فكان من أهم منجزات نهجها الإعلامي : إعادة كتابة التاريخ العالمي بمنهج يخدم المشروع الصهيوني ، وفرض قوانين دولية كقانون معاداة السامية ، واستغلال صورة الضحية التي عانى شعبها بالأمس من ويلات "محرقة هتلر" في الحصول على تعاطف الغرب . ولعل أبرز نجاحاتها يكمن في اقتحام شخصية العدو ـ شخصية الفرد العربي ـ عبر تجريده من لغته واستبدالها بالعامية، وتغريبه عن هويته العربية، وإبعاده عن جذوره الإسلامية عن طريق إشباعه بالإيديولوجيات الغربية والعلمانية والإشتراكية والشيوعية والليبرالية والرأسمالية واستبدال مفاهيم العدل والمساواة بالديموقراطية والحرية اللاأخلاقية وسطوة النفوذ والمال على مقوماته الحياتية.
في فترة مابعد الإحتلال ، نجحت الحركة الصهيوينة في استخدام الغرب المستعمر كأداة لتثبيت فكر القومية العربية مستغلة غياب التعليم في الوطن العربي آنذاك وسيادة الجهل ، فارتكز الحكم على العصبية كما كان الشأن عليه بالنسبة للدول التي تعاقبت على حكم العرب منذ سقوط الخلافة الإسلامية في الأندلس. فاستطاعت احتقان حركات المقاومة التي نحجت في طرد المستعمر الفرنسي والبريطاني والإسباني والإيطالي، واحتضانها تحت قبضة القوميين العرب كحركتي عمر المختار وعبد الكريم الخطابي في شمال إفريقيا . بل إنها شجعت ـ بيد المستعمر ـ بعض التيارات الإسلامية ـ كالتيار الوهابي في الجزيرة العربية ـ لتميل الى العنف اللامشروع والطائفية الدينية. وفي الوقت ذاته حثت على التنوع الديني والطائفية وتعدد المذاهب كالصوفية والتشيع واليزيدية والصابئة والمندائية وغيرها.
أضحت اسرائيل اليوم شريكة السلطة العربية ـ صنيعة استعمار الأمس ـ في اتخاذ القرار. وقد بات واضحا أن استمرار جل القيادات العربية بسدة الحكم رهين باستمرار اسرائيل وزيادة نفوذها، خاصة وأن جلها لاتعبر عن خيار الشعب وإرادته. ويزداد تواطؤ الحكومات العربية ويشتد التدخل الصهيوني في الدول العربية المجاورة لفلسطين ، حيث حازت اسرائيل على الإعتراف من هذه الدول ، ووقعت اتفاقيات سلام ضمانا لحزام أمني يحميها من غضب واستنفار الشعوب ، ويجعلها تتفرغ لتصفية فلسطين من المقاومين.
قد تلزم كتابة مجلدات تتطرق لماحققته وقامت به الحركة الصهيونية منذ بداية القرن الماضي الى غاية اليوم . لكننا سنكتفي بالقول بأن اسرائيل صنعت دولة قوية عبر تأطير محيط استراتيجي وسياسي وتاريخي وعسكري وإعلامي.
هناك جانبين مهمين بل حيويين جدا فشلت فيهما اسرائيل . الأول هو التاطير البشري ، فصحيح أنها نحجت في استقطاب يهود أوربا الشرقية واليهود الأفارقة وصهاينة العالم التواقين الى وطن يضمهم وراية تجمعهم، إلا أن العنصر البشري يظل نقطة الضعف السوداء في سجلات الولادة الإسرائيلية. فتعداد الساكنة الإسرائيلية لايتعدى سبعة ملايين وأربعمائة ألف نسمة ، وعدد اليهود في تراجع مستمر حول العالم .
الضعف الثاني يكمن في غياب المواطنة الحقيقية لدى الفرد الإسرائيلي، حيث أنه وليد هجرة حديثة ووطن مستحدث يغيب عنه الأمن ويسيطر عليه الخوف . المواطن الإسرائيلي يفتقد الى التأطير الروحي والوطني، حيث جاء لينعم بالرفاهية لكنه يعلم أن الأرض التي يطؤها صامدة بفعل القوة وليس بفعلي الأمن والإستقرار. وقد اتخذت اسرائيل إجراءات شتى للتخفيف من وطأة غياب أهم مقومات الوطن : الشعور بالأمن ، فجعلت التجنيد أمرا إجباريا، وحثت على الزواج بين اليهود. كما أن الديانة اليهودية لم تستوعب النهضة الصهيونية ولم تواكبها ، بل ساهمت في إضعاف مقومها البشري. فهي مازالت تتسم بالإنكفاء والإنغلاق على الذات، وغياب دعوة غير اليهود للإعتناق ، والإرشاد الى حفظ العرق من الإختلاط، وتبني نظرية شعب الله المختار . كل ذلك ساهم في زيادة إضعاف الموارد البشرية للكيان الصهيوني. اضف الى ذلك تعدد الطوائف اليهودية وانقسامها على حالها، مما يضعف إطار الدولة الروحي الذي لابد منه لإقامة الدول. حيث ترى بعض الطوائف اليهودية الأرثوذكسية أن قيام الدولة الإسرائيلية يخالف الشرائع الإلهية والتوراة الحقيقية التي حكمت على شعب النبي موسى بالعيش في المنفى تحت سلطة دول يحكمها غير اليهود . أما اليهود الإصلاحيون فيلجأون الى التشكيك بالتلمود ووصفه بأنه عمل بشر وليس بوحي ، ويركزون على الجانب الأخلاقي والسلوكيات كأساس للدين اليهودي متجنبين الكتب المقدسة. بينما يرى اليهود المحافظون وجوب تفسير النصوص المقدسة على ضوء المعارف الحديثة مع ممارسة العادات اليهودية والإيمان بالتوراة والتلمود. كل هذه الإنقسامات الدينية تتم في نفس الوقت الذي يزداد فيه عدد الشباب اليهوديين الذين يديرون ظهورهم للدين .
وعلى الضفة الأخرى ، نجد العرب والمسلمين الطرف الأضعف عسكريا وماليا وإعلاميا واستراتيجيا. ولست هنا أتحدث عن أسر حاكمة أو رؤساء أو حكومات بل عن الشعوب العربية الخاضعة لأمر واقعها المنهزم.
العنصر البشري هنا أقوى ، فتعداد العرب يناهز أربعمائة مليون نسمة محيطها العقائدي يخيف العالم بأسره. فأسس التأطير الأخلاقي والديني والتربوي موجودة وحاضرة لكنها غير مفعلة .
فهاهو توني بلير يعلن مؤخرا : "كنت أقرأ القرآن بانتظام ، كل يوم تقريبا". ويعترف أن النبي محمد كان "على قدر عظيم من القوة الحضارية".
لقد استشعر الغرب خطورة مقومات الإسلام: القرآن والسنة ، خاصة بعد أحداث مطلع هذا القرن. فلم يعد يتعامل مع "أناس متخلفين" على حد زعم تشرتشيل قبل مايزيد عن تسعين سنة بل مع قوام حضارة غابت منذ مايزيد عن سبعة قرون وقد تصحو في ضمائر وعقول معتنقيها في أي وقت وحين.
إن مايحدث في غزة ـ بينما أخط هذه الحروف ـ لأكبر دليل على فعالية أخلاقيات الدين الإسلامي في أصغر بقعة على الخارطة الإسلامية صمد أهلها وضحوابأنفسهم وأموالهم وأولادهم ونسائهم وشيوخهم رغم الحصار والنعت بالإرهاب والقصف اليومي، علما أن بمقدور حركة حماس النطق بكلمة واحدة قد تخلصها وتنجي أهل غزة من المذبحة، ألا وهي الإعتراف بالكيان الصهيوني .
إن معادلة الإيمان بالجنة والنار والغيبيات والمسؤلية أمام إله واحد عظيم في يوم يسمى بالحشر تجعل من الهزيمة المادية انتصارا روحيا، ومن الموت الدنيوي حياة في الآخرة . إنها المعادلة الإيمانية التي تغيب لدى الطرفين الصهيوني والغربي وتجعل معركتهما خسارة قبل بدايتها لأنها تفتقد الى المعطى الروحي.
إن الحضارة الغربية اليوم في ضائقة كبيرة اسمها الإسلام، ضائقة تعلم تابعيها التزام أدبيات المقاومة والصمود والتطلع الى حياة شريفة قبل وبعد الموت. فلم تفلح الحركة الصهيونية ولا الغرب في ترويج سلعة الإرهاب وإلصاقها بحركات النضال والمقاومة الصادقة، ولم تفلح في تشديد الحصار الإقتصادي وشد الخناق عليها استراتيجيا ، ولم تخفها الطائرات العمودية والمقاتلة وأسلحة الدمار ، لأن سلاح المقاومة يقين داخلي بالنصر مهما طال الزمن ومهما كانت النتائج. بينما لوفعلت حماس بتل أبيب مافعلت إسرائيل بغزة، لأصبحت إسرائيل خاوية على عروشها ولفر أهلها من حيث لارجعة.
وتبقى الشعوب العربية المسلمة مكبلة الأيدي حائرة، وهي التي تملك أكبر سلاح تتمناه الدول العظمى ألا وهو القوة الروحية . إن القضاء على الطغيان الصهيوني يبدأ من النفس أولا ، من موقع التراب الذي نطأه كل يوم ، فالصهيونية في مجلس البرلمان العربي الذي يتخذ القرارات نيابة عن الشعب، وفي بطانة السدة الحاكمة التي تعض على الكرسي منذ عقود، وفي الرضا بالذل والهوان تحت إمرة الدكتاتوريات، وفي خطيب الجمعة الذي يصمت عن الحق ، وفي العالم الذي يدق باب السلطان بدل أن يدق السلطان بابه، وفي القاضي الذي يحكم بهواه وهوى الناس، وفي الرشوة التي يتقاضاها العامل والشرطي ووالي المدينة، وفي التقاعس عن طلب العلم وخوض معركة البناء الحضاري، وفي التبعية العمياء لغير الحق ، وفي الجبن والتخاذل عن نصرة المظلومين، وفي الاستسلام لغير العدل والمساواة ، وفي الخضوع لمناهج تعليمية لاتمت لهويتنا بصلة، وفي الإنتقاص من لغة الضاد وترسيم لغات الغرب، وفي إهانة المواطن العربي والمسلم وتضييع حقه بدلا من الرفع من قدره وتعزيز شأنه.... واللائحة طويلة مسترسلة تبدأ من أول نفس حين الولادة حتى آخر شهقة حين الإحتضار.
خلاصة القول ، معركة اسرائيل خاسرة منذ بدايتها لأنها تحارب الموت ، ولايحارب الموت عاقل. وكذلك مصير معاركها القادمة سواء مع حماس أو غيرها من الحركات التي تتبنى نهجا روحيا يتوخى العدل والحق . فلاكلمة تعلو على الحق، والحق يعلو ولايعلى عليه، والحق كل الحق أن تثور الشعوب المسلمة ضد الصهيونية القابعة داخل ترابها وحدودها من أجل التحرر والإمساك بنواصب الأمور قبل إقدامها على مناصرة غزة وأهلها ، فأهل غزة أثبثوا للعالمين أنهم أقوى من شعوب الأرض مجتمعة وأقلهم حاجة لنصرة من هم أضعف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق