الجمعة، يوليو 24

المقاومة.. ثقافة موت أم حياة ؟!

 

بقلم: حسن كامل الفضلي

تعيش منطقة الشرق الأوسط منذ ما يناهز الستين عاما حالة من التَيه والحيرة، فهي لا تكاد تخرج من أزمة إلا وتقع في أخرى! بل إن شعوب هذه المنطقة - المغلوب على أمرهم - صاروا يتوقون إلى العيش بسلام وسكينة في بلدانهم التي لم تذق طعم الأمن والأمان منذ أن غَلِبَتِ الرُّومُ العرب فِي بِضْعِ سِنِينَ عجاف! زرعت خلالها كيانا غاصبا في غربي بلادنا العربية - حيث الأرض المقدسة – رافعا ذيله بكل عجرفة وكبرياء! يثير القلاقل في المنطقة ويصب الزيت على النار! مطبقا بذلك نظرية (فرق تسد) حتى يتسنى له العيش طويلا في أرض فلسطين، وأنّى له ذلك!
ومنذ أن تأسس هذا الكيان الغاصب على أرض فلسطين، تشكلت فرق وجماعات عسكرية كثيرة كان - وما زال - هدفها الوحيد تحرير الأرض والإنسان والمقدسات من براثن هذا المحتل، وإبقاء شعلة الأمل تستعر في قلوب الأحرار في هذا العالم، من دون أن يكترثوا بصيحات الاستهجان (العالمية) التي يلاقونها صباحا ومساء استنكارا وتنديدا بمقاومتهم الفريدة والنوعية التي زلزلت كيان الدولة اللقيطة! حتى بات رموزها يجبّن كل منهم صاحبه ويحمله مسؤولية الهزيمة المذلة التي مُنوا بها على أيدي المؤمنين الصابرين في حرب تموز الأخيرة التي كانت بحق نصرا الهيا عظيما فرح به المؤمنون الأخيار وعبست له وجوه المرجفين من بعض أصحاب الأقلام!
وبعد مرور تاريخ طويل على تأسيس حركات المقاومة الإسلامية والعربية في وجه الكيان الصهيوني، ظهرت على الساحة جملة من حملات التشويه (المتعمد) التي تهدف إلى زعزعة ثقة شعوب المنطقة بهذه الحركات والتقليل من أهمية الدور المحوري الذي تلعبه في المنطقة! وكان من ضمن الأمور التي تُذاع بين الفينة والأخرى من أجل النيل من هذه المقاومة هو أن هذه الحركات تربي شبابها على ثقافة الموت وتحرمهم من الانفتاح على ثقافة الحياة المزعومة! وكأن الحياة بنظرهم صارت مجرد الخضوع لقوى الاستكبار العالمي وتنفيذ شروطها وتأدية فروض الطاعة والولاء لها من أجل الحصول على فتات الثروات التي يقتسمونها فيما بينهم! والموت هو مقارعة الظالمين والتمسك بالحرية والأمل في زوال دولة الباطل والعيش في دولة الحق والعدل حتى لو كان ثمن ذلك تهاوي رؤوسهم وقتلهم وحرقهم وصبغ الأرض بدمائهم!..
ولو راجع هؤلاء المثبطون تاريخ حركات المقاومة في العالم، لخجلوا من أنفسهم قبل أن يثيروا مثل هذه الشبهات! فالولايات المتحدة الأميركية (مثلا) لم تكن لتصل إلى ما وصلت إليه الآن لولا مقاومة الشعب الأميركي للاحتلال البريطاني وقيام معارك طاحنة بين الثوار الأميركيين والقوات الملكية البريطانية، فهل يجرؤ أحد الآن أن يصف المقاومين الأميركيين بالإرهابيين وأنهم صنّاع موت وأعداء للحياة؟! وكذلك الجمهورية الفرنسية الحديثة لم تحصل على مكانتها العالمية المرموقة إلا بعد أن انتفض الشعب الفرنسي على نظامه الحاكم آنذاك وقيامه بتشكيل فرق مسلحة جعلت عاليَ القوم أسفلهم! فهل يجرؤ أحد على وصفهم أيضا بعشاق الموت؟!
والشيء بالشيء يُذكر، إذا أردنا أن نعرف من هم أعداء الحياة ومن هم المتعطشون إلى الدماء فعلينا أن ندقق فيما صنعه رجال تلك الثورات - آنفة الذكر – في أعدائهم وفي الجواسيس الذين كانوا يعملون لحساب أعدائهم من عمليات قتل وإعدام واسعة خلت من أي شفقة ورحمة! على عكس المقاومة الإسلامية التي سلمت أمر الجواسيس إلى السلطات الحاكمة ولم تمسهم بأي سوء في خطوة رائعة منها عكست مدى تحضرها وتحلي رجالها بالأخلاق الفاضلة وقيامها على أساس ثقافة تدعو إلى الحياة وتمقت القتل وتسعى إلى تحقيق أكبر قدر من الانتصارات بأقل قدر من سفك الدماء..
ولعل الذي دعا البعض إلى إثارة مثل هذه الشبهات حول حركات المقاومة الإسلامية هو حيرته ودهشته من عشق أولئك الشبان للاستشهاد وعدم خوفهم في سوح الوغى سواء أوقعوا على الموت أم وقع الموت عليهم! ولو تأملنا قليلا لرأينا أن خلفيتهم الفكرية والعقائدية هي التي جعلت قلوبهم كزبر الحديد، حتى كأنهم ليوث قد خرجوا من غاباتهم، لو همّوا بإزالة الجبال لأزالوها من مواضعها!
فهؤلاء الرجال يحملون فكرا ثوريا ورثوه من سيد الشهداء وملهم الثوار (ع) الذي تحدى الظالمين في زمانه وأسقطهم من عروشهم وقبّح الحياة معهم حين صرخ في وجوههم: (إني لا أرَى المَوتَ إِلاَّ سَعَادَة والحَياةَ مَع الظالمينَ إِلاَّ بَرَمَا).. ( ألا إنّ الدّعيّ بنَ الدّعي قَد رَكزَ بينَ اثنتين – بينَ السّلةِ والذلةِ – وهَيهَات منّا الذّلة، يَأبَى الله لنَا ذلكَ ورسولُه..)
ولم تصبح قلوبهم أشد من الحجر إلا بعد أن سمعوا ووعوا قول إمامهم الضارب بسيفين والطاعن برمحين والثابت ببدر وحنين: ( وَقدْ أرعَدوا وأبْرَقوا، ومَعَ هذيْن الأمريْنِ الفشَل! ولَسنَا نُرعِدُ حتّى نوقِع، ولا نُسيلُ حتّى نُمطِر).. وكأن أمير المؤمنين (ع) ماثلا أمامهم مشمرا حاسرا عن ذراعيه، يذود عنهم بسيفه ذي الفقار رايات المنافقين وهو يصرخ فيهم صرخة رجل واحد: ( تَزولُ الجِبالُ ولا تَزُل، عَضّ على ناجِذِك، أعِرِ اللهَ جُمجُمَتَك، تِدْ فِي الأرضٍ قدَمَك، إرمِ ببصَرك أقصَى القَوْم، وغُضّ بَصَرَك، واعلَمْ أنّ النّصرَ مِن عِنْد اللهِ سُبحَانه)،وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
hasan_alfadhli@hotmail.com

الأربعاء، يوليو 22

خ// حكايتنا معهم

بقلم : مريم الراوي

كان الصبية يلعبون في الازقه, ويضحكون في زوايا حواري النور .......
هام الصغار في كل دار,, وخطواعلى كل جدار.ألف, باء , تاء. أبجدية الحروف وبدايه الحكايه.
كان القلب فرحاً والعين تناجي أملاً...
وعند الفجر,, أمطر الحقد نيراناً خرقاء. ورصاصاً أحمق, يجتاح ورد الشوق, وإرز العشق الاحمر., يملء باروده الارعن جوف الزيتون, وبصدر النخل يغرس حقده المعلن..
هرع الصبية يتصارخون, يسرعون , يهرولون, يبكون. الى الدار الاكبر وجهتهم.علهم يجدون من يحرسهم.
لم يجدوا سوى أقنعةً الخداع والنفاق والكذب تتساقط واحدة تلو الاخرى من الجدران وغربان تنعق.
ظهر الظلم في عتمة الليل وانزاح الستار عن أيادٍ لاترحم..
تصارخ الصبية,بكت رياحين الشمس, إفترقت افئدة العشاق, فنهض النهار في عيون الغد, وهبت سواعد سمراء لاتعرف كذبٍ ولاخداع..
تهدم الدار على الصبيه, تكسرت شبابيك أطلت يوماً على سماء الهوى..فتهاوت أسطح الماضي وغدى الدار ركاماً الا من بقايا طفولةٍ ممزقه وايادٍ لرجال كانوا هاهنا يبشرون بعبق الحريه , رجالاً كانوا كالندى.ينثرون نوار الكرامة على جباهنا المتعرقة خجلاً من عيونهم الجميله..وهي تنصهر مع شروق الشمس,لتنير طريق الاتي...
فياصغيري...
لاتحزن....
قم وأنهض وعنك الالم إخلع
ياصغيري...
ظهري لك خيمة, وعيوني لك شمس, وكحل العين لك ليل لاتنتهى حكاياه....
ياصغيري لاتبك...
فمتى ماأنصهر الغد في عيوننا, فأعلم بأن النصر آتْ..
لاتحزن على أشباه الرجال
فلايزل النخيل والزيتون والإرز يطاولون قباب السماء
فكم ,في النهارات كنا نبحث عنهم, علهّم يكونوا ظلنا الوديع
وفي الليالي ننتظر مصباحهم لينير لنا الطريق.
لكنهم ماجاؤا نهاراً ولاأ طَلوا علينا في الليل.
تركونا نجدل اهاتنا ونمسح على وجه النهار الحزين وحدنا..
أغرقوا الغيوم بطوفان من الغدر
وأغتصبوا ملايين النجمات.
لم يعد ثمّة شرفة تطّل على مدن الليمون
ولم تعد الطيور تحتمي في ضي القمر..
ياصغيري..
نحن من....
أتعبنا المضي في دروب تجذ ْرت فيها الخيانة
أشقانا الصمت المُشَبَعْ برائحة الحقد..
تَعانَق الغراب والثعبان هنالك
إمتزجت الدموع بالدم
تلاشت ملامح الامس وأُستُبدِلت بالموت
كماطعنونا و مزقونا, بكوا على قصائدنا
وعلى اشلائنا نثروا الالاف الزهرات..
لكنهم لم يعلموا مافي الفؤاد؟؟
كم من جرح يصرخ كل يوم!!
وكم من حلم أغتيل في السحر؟!!

فعذراً ياعراق
عذراً يافلسطين
عذراً يالبنان
أصبحت دمائكم قهوة النهار
وموتاكم أضحوا كأنشودةً مملة
تُعزف صبح مساء..
عذراً,,
ماعدتم في عداد الانسانيه عندهم..

الأحد، يوليو 19

هل أتاكم حديث الحاج مبارك

مقالة بقلم: فؤاد وجاني

قبل أزيد من عشرين سنة ونيف من الزمان الجميل، وفي إحدى قرى جنوب المغرب المنحدرة قبائلها الأصيلة من القحطانيين بشبه الجزيرة العربية ، عاش رجل أبيض اللحية، حمول حليم ، وقور حكيم، مقتصد المشية ، ثاقب البصيرة ، طويل البال ، عريض الإبتسامة، خفيف الظل ، حسن المعاشرة .
كان ينهض في وقت الغلس والخلق نيام ، قبل أن يقبّل نسيم البلجة أوراق الشجر ، وقبل أن تعلن حنجرة الديك العذبة عن آذان الفجر، وقبل أن ترسل الشمس عيونها الذهبية على موج البحر، ليتوضأ بما جادت به السحب الحاملات على الدلو من مزن ومطر ، ويتوجه نحو القبلة ليصلي ركعتي السحر لفاطر السماوات السبع والأرضين على حصيرة مصنوعة يدويا من نبات الدوم، بينما تحضر زوجته فطورا بلديا بشربة ترم العظم، وشاي أخضر بنكهة النعناع يهز الهمم ، وخبز رائحته مستمدة من عبق الأرض المعطاء ، وزبدة بلدية طازجة تكاد تبرح ضرع البقر، وعسل بري من لعاب نحل حر مستخلص من حلاوة العمل الطيب والنية الحسنة.
هكذا كان الحاج مبارك يبدأ نهاره المبارك كل يوم دون إستثناء. بعدها يتوجه الى حقوله ليحرثها ويهيج خصوبتها بمحراث خشبي تجره دابة من الدواب ، فيرسم الجهد خرائطه على كفيه وينقش النصب علاماته على جبينه.
حين ترى الحاج مبارك لأول وهلة تحس أنك تعرفه من زمان بعيد ، فصورته في أشجار أرغان وتراب الحمري وفاكهة العنب وبذور الطماطم وسنابل الزرع وحبوب الذرة، كلها مبللة بعرق جبينه ومنحوتة بآثار صنيعه. رائحة الأرض وعيون الماشية وقلوب الناس كلها كانت تعرفه.
وكان الناس يلجأون إليه ليعدل بينهم في حال الخصام ، ويفزع اليهم بيد المساعدة في حل المعضلات الجسام ، ويجود عليهم بالنصح في أويقات الوئام.
وإذا ماحل يوم السوق الأسبوعي يوم الجمعة ، يجمع الحاج مبارك ممارزقه الله من خيرات الأرض وفاكهتها وخضارها وبقولها وقثائها وقرعها ، فيملأ شِقَّيْ عَدِيلَا حماره ومِحْملَ بغلهِ ، فيبيعها ويبتاع بثمنها اليسير ماتيسر من الشاي والسكر والحلويات ولوازم الطهارة والنظافة وأزياء اللباس لعائلته.
ثم إذا حان وقت صلاة الجمعة ، تزين في أحسن صورة بهية وطلع في أجمل إطلالة زكية بعمامته الناصعة البياض وجلبابه القطني ، وركب بغله متوجها لصلاة الجمعة وقد بدا في هيئة أرقى من سلطان الطلبة. فإذا حل موعد الطعام ، ذبح الذبيحة وأحضر الوليمة ودعا الجيران والأصحاب وقبلهم الفقراء الى مشاركته الطعام والشاي.
لم يكن الحاج مبارك ثريا ، إلا أنه كان مستغنيا عن مافضل عن قوت عياله وأهله وكفايتهم لفائدة الناس بفضل توكله على رب السماء في كل اموره ،فلم يخذله ربه يوما دون أن يرزقه ويحفه بالخير والبركة من كل جانب .
بل حتى في سنوات الجدب وجفاء السماء وشح الأمطار، لم يقفل الحاج مبارك آباره كما يفعل الفلاحون الآخرون بل كان يدعها مفتوحة لعابري السبيل ولأهل القرية كي يوردوا إبلهم العطشى ومواشيهم الظمآى ، ولم تكن تنضب الآبار بل لم يضنها سقي الناس منها ، ولسبب من الأسباب الخفية يعجز العلم عن تفسيرها ويفشل المنطق في تحليلها كانت تكفي جميع الناس والدواب.
ذهب الحاج مبارك ذات يوم لأداء بعض المكوس الحكومية ، فوجد طابورا طويلا أطول من بيروقراطية الإدارة المغربية، فبقي الناس ينتظرون أزيد من عشر ساعات دون أن يتسنى لهم وقت للطعام او الشراب. أخرج الحاج مبارك من قب جلبابه المرقع ربع خبزة بلدية وقنينة لبن زودته بهما زوجته ، واقتسمهما مع إثني عشر رجلا ، كل منهم أخذ نصيبه وسد رمقه وأشبع بطنه.
سألته ذات قيلولة وقد افترش التراب بينما كانت غنمه ترعى على ما تنبت الأرض من برسيمها : "من يملك كل هذه الأرض ياحاج؟"، وكنت أعلم في قرارة نفسي أنها ملك له. فأجابني وبصره متجه نحو السماء ، وابتسامة تشبه خضرة الطبيعة من حوالينا قد ارتسمت على محياه ، وبريق قد اكتسح عينيه الشاكرتين : "كل هذه الأرض ملك لله سبحانه وتعالى".
لم تكن مطالعة الكتب أو المدارس أو الجامعات أو الحياة أو الأسفار لتعلمني مالقنني إياه الحاج مبارك تلك اللحظة .حينها فهمت السر وراء السعادة والمغزى خلف الرزق والبركة ، وفهمت أن الإبتسامة أبلغ مظاهر الشكر والحمد.
مات الحاج مبارك وهو في كامل قواه البدنية والعقلية واقفا على السلم بينما كان يجني الزيتون من الشجر، وقد ارتسمت نفس الإبتسامة الشاكرة على محياه الملائكي .
بعد موته ، توقفت الأرض عن العطاء ، وأجدبت السماء ، وفر النحل من دياره، وماتت الدواب، وقلت الغنم ، وتقاسم الورثة الأرض، وغابت الحياة ، وبقيت زوجته الوفية في نفس المنزل القروي ترفض العيش في المدينة مع بناتها وأبنائها حفاظا للوعد وصونا للعهد.
قبل موته بشهر واحد ، كان الحاج مبارك قد حفر قبرا في روضة القرية . حين سأله أصحاب القرية مندهشين: "لمن القبر ياحاج؟". أجاب بنفس الإبتسامة: "لنفس قد يتولاها الله سبحانه يوما ما". لم يكن أحد يعلم أن القبر سيكون المرقد الدائم والمصير الحاتم لحافره الحاج مبارك. وكذلك العظماء يأبون إلا أن يموتوا كالشجر واقفين خالدين في قمة العطاء ، وكذلك الكرماء ينبشون قبورهم بأيديهم شوقا للسماء .
بعد عشرين سنة ، طرح علي بعض طلاب العربية الأمريكيين هذا السؤال: "مامرادف كلمة "البركة" في اللغة الإنجليزية؟". أطرقت مليا وفكرت طويلا ، فلم أجد لها مقابلا في لغة العجم يفي بأداء اللفظ معنى واصطلاحا واحساسا وثمارا وغرضا من حكاية الحاج مبارك مع البركة ، فرويتها لهم بإسهاب لعلهم يفقهون معناها ويدركون فحواها.
وهاأنذا أقدمها في مقالة باقتضاب بين أيديكم أيها العرب القارؤون ، وأضعها نصب أعينكم أيها الساعون ليل نهار في دروب الرزق، أيها الشاقون لسبل العيش ، علكم تتذكرون مفردة البركة التي غابت عن قواميسكم اليومية ، وتناستها بيوتكم وخلت منها جيوبكم، في زمان أصبحت فيه حياتكم فارغة من البركة ،ولم تعد لكم بركة لا في نسائكم ولارجالكم ولاأولادكم ولاأموالكم.
رحم الله أزمان البركة ، ورحم الله الحاج مبارك وتغمده الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته مع الشهداء والطيبين والأخيار البررة .

الأربعاء، يوليو 1

مُوجَزُ بيانِ البيْنِ بينَ الدِّيموقراطية الوضعيةِ والعدلِ الإِلهي

بقلم: فؤاد وجاني

إن للتاريخ دورات كفصول السنة لامحيد ولامزحزح عنها. والتاريخ يكرر نفسه في حياة الأجيال والدول على حد السواء. ويعد تاريخ الدول خصوصا تجسيدا لقانون الطبيعة، فالأمم تنشأ صغيرة من قبيلة أو زاوية دينية أو حزب سياسي أو حركة ثورية أو توجه فكري وأحيانا من فراغ في سدة الحكم ، تليها مبايعة أقلية فاعلة تسيطر على غالبية الناس طواعية أو كراهية أو جهلا .
هذه النخبة الأقلية تحتاج الى مصداقية (شرعية) دينية أو فكرية أو تراثية أو سياسية، سواء حقيقية أو مفتعلة كانت، للحصول على مبايعة عامة الناس وتأييدهم. لذلك فإن علاقة النخبة الحاكمة بالناس علاقة تلازم ضرورية، فمن الناس يتكون الجيش الحامي للدولة (أو النخبة) ، وبالناس قوام الحرف والمهارات والصناعات والزراعة والأعمال والضرائب والمكوس ، فلاتقوم للدولة قائمة بدون الناس . هكذا تخلق الدولة مشروعية لها .
و تتحكم الأقلية الحاكمة في الدولة عبر إنشاء قانون أو دستور تكون أول مبادئه إقرار شرعية الإنصياع المباشر والكامل لهذا القانون ، فيخضع له كل الناس ضمانا لاستمرارية الحكم سواء كان عادلا أو مستبدا. وقانون الدولة في معظمه مستمد من اجتهادات انسانية تعتمد على عناصر متباينة قد تشمل المنطق والدين والأخلاق ومسايرة العصر والتقاليد والثقافة والمصالح والعصبية وقوى أجنبية .
لذلك فإن تغيير نظام أوحكم مستبد في بلاد ما لا يحدث بالقوة التي لن تسفر سوى عن استبدال أقلية مستبدة بدل أخرى، بل عبر إعادة تربية شخصية المواطن الذي هو بمثابة قوام الدولة، وعبر تغيير الشرع أو القانون القائم وإعادة النظر في المفاهيم الحقيقية للرمز والقيادة . فالقوة أداة وليست غاية في حد ذاتها، لاتثمر ولاتؤتي أكلها دون تربية الناس على المنهج الصحيح للقانون الذي ينبغي أن يحكمهم.
وحين نتحدث عن إعادة تربية شخصية المواطن ، فذلك يشمل الطفل والشاب والمراهق والبالغ والشيخ الذكر منهم والأنثى . والتربية لاتعني التعليم بالضرورة ، بل نقصد بها تربية النفس على الوعي والإدراك بشرعية القوانين التي تحكم البلاد. فهل هي قوانين مستمدة من أخلاق وتاريخ وتقاليد وأديان الناس البسطاء العامة؟ وهل تمثل طموحاتهم وترقى الى مستوى تطلعاتهم ؟ أم أنها انعكاس لقوانين أجنبية مستمدة من فكر الإستعمار، ولاتخدم سوى النخبة الحاكمة؟
ولنرجع هنا الى العهد الإسلامي الذي يعتبر استثناء في التاريخ العربي المليء بالإستبداد ، لنجد أن رمز الدولة وقائدها لم يكن إنسانا ولانبيا ولاخليفة ، بل قانونا عادلا يخضع له الجميع دون استثناء، وفي طليعتهم القائد، و القانون العادل هو الذي يدعو الى تشديد العقوبة على القائد أولا في حالة المخالفة.
ولنسرد على ذلك القرآن كقانون خضع له آنذاك الجميع وفي طليعتهم النبي محمد (ص) وفيه مضاعفة للعقوبة على زوجات النبي في حال مخالفتهن للقانون القرآني باعتبراهن قدوة النساء في المجتمع العادل.
وبعد موت الرسول (ص) ، أسس أبو بكر أول بند في القانون العادل المستمد من التشريع الإلهي في أول خطبة له أمام العامة قائلا: "من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت" .
مفهوم الله في هذا السياق العقلاني هو رمز حسي غير ملموس لكنه موجود يوصل اليه عبر المعاني التي يجسدها وليس عبر التجسيد للذات الإلهية نفسها. فالله في هذا المضمار يعبر عن العدالة والقانون والحرية .
إذن القانون العادل لا يتمحور حول شخصية معينة ولوكانت هذه الشخصية تتمثل في النبي محمد (ص) المكلف بالرسالة نفسه، لأن الرسول وسيلة لإيصال وتطبيق وسن القانون العادل فقط، ولايجوز التخلي عن القانون الإلهي في حال موت الوسيلة .
ولن أحاضر هنا عن مفهوم القيادة بل سأترك أمثلة يسيرة تتحدث عن نفسها ، فهذا عمر بن الخطاب يقدم لنا صورة عن العدل الذي لايشمل الإنسان والنبات فقط بل يمتد الى الحيوان: "والله لو ان بغلة بالعراق تعثرت لسئلت عنها يوم القيامة". وذلك عمر بن عبد العزيز يخفّف الجبايات عن الموالي والفرس والنصارى، ويرفع الخراج عمّن أسلم من أهل الذمة. ويعوض النصارى عن مصادرة كنيسة القديس يوحنان بكنيسة توما في دمشق، ويقرأ القرآن على ضوء شمعة حتى لايأخذ ثمن زيت السراج حفاظا على مدخرات بيت المسلمين .
وهاهو الإمام علي بن أبي طالب أيام خلافته يجد درعا له سقطت من جمله عند يهودي فيطالبه بها لكن اليهودي يرفض مدعيا أنه صنعها لنفسه، فيلتجآن الى القاضي ليحكم بينهما، فيُحضر الإمام علي غلاما له وابنه الحسن كشاهدين ، لكن القاضي يرفض شهادة الحسن ابن أمير المؤمنين، ويرجح كفة اليهودي الكاذب على خليفة المسلمين، ليعتذر ويسلم بعدها اليهودي لما وجده في القانون الإلهي من عدل قائم على البينة ولو على حساب القائد.
ذلك المفهوم الناجح الناجع جعل الأمم الأخرى تتسابق نحو اعتناق الدين أو القانون الجديد لأنه مصاغ من قبل كينونة سامية عقلانية موضوعية غير بشرية. وكان ذلك سر نجاح الدستور العادل الجديد في مد خريطة العرب نحو آسيا وأوروبا وإفريقيا وأمريكا.
إن القانون العادل يخلق الدولة المتينة الركائز ويثبت دعائمها ويصل بها الى ربيع العمر حيث الإزدهار والرفاهية والحضارة، وفي تلك الحقبة تلجأ الدولة العادلة الى العلوم والفنون والصناعات المتطورة والتفنن في تفاصيل الحياة . أما الدولة الهشة المتآكلة فتخلق القوانين الاستبدادية لنفسها مؤسسة بذلك لأسس انهيارها على يد دولة مستبدة أخرى سوف تليها في دورة من دورات التاريخ المقبلة.
وقد خَلُص الفلاسفة الإغريق قديما وعلى رأسهم افلاطون في الجمهورية الفاضلة الى أن القانون الإنساني غير ناجع لأن مصدره الإنسان الميال الى التعدي بطبيعته . وقد أكد المتنبي تلك النظرية الإغريقية في بيته الشعري:
والظلم من شيَم النفوس فإن تجدْ
ذا عِفَّة فَلِعِلَّة لا يظلمُ
لذلك فإن نظم الحكم التي تصف نفسها اليوم بمصطلح الديموقراطية ،الذي يحمل في طياته مكونات الوهن، تكذب على شعوبها . يكفي أن نتساءل هذه الأسئلة التي لاتحتاج الى إجابة: إذا كان مصطلح الديموقراطية يعني حكم الشعب لنفسه ، فهل نجد حكما للشعب في الدول "الديموقراطية"؟ وإذا كان مفهوم الديموقراطية يدل على حماية حقوق الأقليات ، فهل ضمنت دول مثل أمريكا وفرنسا والدنمارك وهولندا حقوق الأقليات؟ وإذاكان مفهوم الديموقراطية يدعو الى استقلال القضاء ، فهل فعلا القضاء مستقل في الدول "الديموقراطية"؟ وأخيرا وليس آخرا، إذا كانت الديموقراطية تهدف الى التداول السلمي للسلط ، فهل يتم ذلك بمنأى عن تأثير المال وأصحاب المنافع في الدولة؟
أترك لكم الإجابة أيها العادلون .