مقالة بقلم: فؤاد وجاني
قبل أزيد من عشرين سنة ونيف من الزمان الجميل، وفي إحدى قرى جنوب المغرب المنحدرة قبائلها الأصيلة من القحطانيين بشبه الجزيرة العربية ، عاش رجل أبيض اللحية، حمول حليم ، وقور حكيم، مقتصد المشية ، ثاقب البصيرة ، طويل البال ، عريض الإبتسامة، خفيف الظل ، حسن المعاشرة .
كان ينهض في وقت الغلس والخلق نيام ، قبل أن يقبّل نسيم البلجة أوراق الشجر ، وقبل أن تعلن حنجرة الديك العذبة عن آذان الفجر، وقبل أن ترسل الشمس عيونها الذهبية على موج البحر، ليتوضأ بما جادت به السحب الحاملات على الدلو من مزن ومطر ، ويتوجه نحو القبلة ليصلي ركعتي السحر لفاطر السماوات السبع والأرضين على حصيرة مصنوعة يدويا من نبات الدوم، بينما تحضر زوجته فطورا بلديا بشربة ترم العظم، وشاي أخضر بنكهة النعناع يهز الهمم ، وخبز رائحته مستمدة من عبق الأرض المعطاء ، وزبدة بلدية طازجة تكاد تبرح ضرع البقر، وعسل بري من لعاب نحل حر مستخلص من حلاوة العمل الطيب والنية الحسنة.
هكذا كان الحاج مبارك يبدأ نهاره المبارك كل يوم دون إستثناء. بعدها يتوجه الى حقوله ليحرثها ويهيج خصوبتها بمحراث خشبي تجره دابة من الدواب ، فيرسم الجهد خرائطه على كفيه وينقش النصب علاماته على جبينه.
حين ترى الحاج مبارك لأول وهلة تحس أنك تعرفه من زمان بعيد ، فصورته في أشجار أرغان وتراب الحمري وفاكهة العنب وبذور الطماطم وسنابل الزرع وحبوب الذرة، كلها مبللة بعرق جبينه ومنحوتة بآثار صنيعه. رائحة الأرض وعيون الماشية وقلوب الناس كلها كانت تعرفه.
وكان الناس يلجأون إليه ليعدل بينهم في حال الخصام ، ويفزع اليهم بيد المساعدة في حل المعضلات الجسام ، ويجود عليهم بالنصح في أويقات الوئام.
وإذا ماحل يوم السوق الأسبوعي يوم الجمعة ، يجمع الحاج مبارك ممارزقه الله من خيرات الأرض وفاكهتها وخضارها وبقولها وقثائها وقرعها ، فيملأ شِقَّيْ عَدِيلَا حماره ومِحْملَ بغلهِ ، فيبيعها ويبتاع بثمنها اليسير ماتيسر من الشاي والسكر والحلويات ولوازم الطهارة والنظافة وأزياء اللباس لعائلته.
ثم إذا حان وقت صلاة الجمعة ، تزين في أحسن صورة بهية وطلع في أجمل إطلالة زكية بعمامته الناصعة البياض وجلبابه القطني ، وركب بغله متوجها لصلاة الجمعة وقد بدا في هيئة أرقى من سلطان الطلبة. فإذا حل موعد الطعام ، ذبح الذبيحة وأحضر الوليمة ودعا الجيران والأصحاب وقبلهم الفقراء الى مشاركته الطعام والشاي.
لم يكن الحاج مبارك ثريا ، إلا أنه كان مستغنيا عن مافضل عن قوت عياله وأهله وكفايتهم لفائدة الناس بفضل توكله على رب السماء في كل اموره ،فلم يخذله ربه يوما دون أن يرزقه ويحفه بالخير والبركة من كل جانب .
بل حتى في سنوات الجدب وجفاء السماء وشح الأمطار، لم يقفل الحاج مبارك آباره كما يفعل الفلاحون الآخرون بل كان يدعها مفتوحة لعابري السبيل ولأهل القرية كي يوردوا إبلهم العطشى ومواشيهم الظمآى ، ولم تكن تنضب الآبار بل لم يضنها سقي الناس منها ، ولسبب من الأسباب الخفية يعجز العلم عن تفسيرها ويفشل المنطق في تحليلها كانت تكفي جميع الناس والدواب.
ذهب الحاج مبارك ذات يوم لأداء بعض المكوس الحكومية ، فوجد طابورا طويلا أطول من بيروقراطية الإدارة المغربية، فبقي الناس ينتظرون أزيد من عشر ساعات دون أن يتسنى لهم وقت للطعام او الشراب. أخرج الحاج مبارك من قب جلبابه المرقع ربع خبزة بلدية وقنينة لبن زودته بهما زوجته ، واقتسمهما مع إثني عشر رجلا ، كل منهم أخذ نصيبه وسد رمقه وأشبع بطنه.
سألته ذات قيلولة وقد افترش التراب بينما كانت غنمه ترعى على ما تنبت الأرض من برسيمها : "من يملك كل هذه الأرض ياحاج؟"، وكنت أعلم في قرارة نفسي أنها ملك له. فأجابني وبصره متجه نحو السماء ، وابتسامة تشبه خضرة الطبيعة من حوالينا قد ارتسمت على محياه ، وبريق قد اكتسح عينيه الشاكرتين : "كل هذه الأرض ملك لله سبحانه وتعالى".
لم تكن مطالعة الكتب أو المدارس أو الجامعات أو الحياة أو الأسفار لتعلمني مالقنني إياه الحاج مبارك تلك اللحظة .حينها فهمت السر وراء السعادة والمغزى خلف الرزق والبركة ، وفهمت أن الإبتسامة أبلغ مظاهر الشكر والحمد.
مات الحاج مبارك وهو في كامل قواه البدنية والعقلية واقفا على السلم بينما كان يجني الزيتون من الشجر، وقد ارتسمت نفس الإبتسامة الشاكرة على محياه الملائكي .
بعد موته ، توقفت الأرض عن العطاء ، وأجدبت السماء ، وفر النحل من دياره، وماتت الدواب، وقلت الغنم ، وتقاسم الورثة الأرض، وغابت الحياة ، وبقيت زوجته الوفية في نفس المنزل القروي ترفض العيش في المدينة مع بناتها وأبنائها حفاظا للوعد وصونا للعهد.
قبل موته بشهر واحد ، كان الحاج مبارك قد حفر قبرا في روضة القرية . حين سأله أصحاب القرية مندهشين: "لمن القبر ياحاج؟". أجاب بنفس الإبتسامة: "لنفس قد يتولاها الله سبحانه يوما ما". لم يكن أحد يعلم أن القبر سيكون المرقد الدائم والمصير الحاتم لحافره الحاج مبارك. وكذلك العظماء يأبون إلا أن يموتوا كالشجر واقفين خالدين في قمة العطاء ، وكذلك الكرماء ينبشون قبورهم بأيديهم شوقا للسماء .
بعد عشرين سنة ، طرح علي بعض طلاب العربية الأمريكيين هذا السؤال: "مامرادف كلمة "البركة" في اللغة الإنجليزية؟". أطرقت مليا وفكرت طويلا ، فلم أجد لها مقابلا في لغة العجم يفي بأداء اللفظ معنى واصطلاحا واحساسا وثمارا وغرضا من حكاية الحاج مبارك مع البركة ، فرويتها لهم بإسهاب لعلهم يفقهون معناها ويدركون فحواها.
وهاأنذا أقدمها في مقالة باقتضاب بين أيديكم أيها العرب القارؤون ، وأضعها نصب أعينكم أيها الساعون ليل نهار في دروب الرزق، أيها الشاقون لسبل العيش ، علكم تتذكرون مفردة البركة التي غابت عن قواميسكم اليومية ، وتناستها بيوتكم وخلت منها جيوبكم، في زمان أصبحت فيه حياتكم فارغة من البركة ،ولم تعد لكم بركة لا في نسائكم ولارجالكم ولاأولادكم ولاأموالكم.
رحم الله أزمان البركة ، ورحم الله الحاج مبارك وتغمده الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته مع الشهداء والطيبين والأخيار البررة .
الأحد، يوليو 19
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق