الأربعاء، يوليو 1

مُوجَزُ بيانِ البيْنِ بينَ الدِّيموقراطية الوضعيةِ والعدلِ الإِلهي

بقلم: فؤاد وجاني

إن للتاريخ دورات كفصول السنة لامحيد ولامزحزح عنها. والتاريخ يكرر نفسه في حياة الأجيال والدول على حد السواء. ويعد تاريخ الدول خصوصا تجسيدا لقانون الطبيعة، فالأمم تنشأ صغيرة من قبيلة أو زاوية دينية أو حزب سياسي أو حركة ثورية أو توجه فكري وأحيانا من فراغ في سدة الحكم ، تليها مبايعة أقلية فاعلة تسيطر على غالبية الناس طواعية أو كراهية أو جهلا .
هذه النخبة الأقلية تحتاج الى مصداقية (شرعية) دينية أو فكرية أو تراثية أو سياسية، سواء حقيقية أو مفتعلة كانت، للحصول على مبايعة عامة الناس وتأييدهم. لذلك فإن علاقة النخبة الحاكمة بالناس علاقة تلازم ضرورية، فمن الناس يتكون الجيش الحامي للدولة (أو النخبة) ، وبالناس قوام الحرف والمهارات والصناعات والزراعة والأعمال والضرائب والمكوس ، فلاتقوم للدولة قائمة بدون الناس . هكذا تخلق الدولة مشروعية لها .
و تتحكم الأقلية الحاكمة في الدولة عبر إنشاء قانون أو دستور تكون أول مبادئه إقرار شرعية الإنصياع المباشر والكامل لهذا القانون ، فيخضع له كل الناس ضمانا لاستمرارية الحكم سواء كان عادلا أو مستبدا. وقانون الدولة في معظمه مستمد من اجتهادات انسانية تعتمد على عناصر متباينة قد تشمل المنطق والدين والأخلاق ومسايرة العصر والتقاليد والثقافة والمصالح والعصبية وقوى أجنبية .
لذلك فإن تغيير نظام أوحكم مستبد في بلاد ما لا يحدث بالقوة التي لن تسفر سوى عن استبدال أقلية مستبدة بدل أخرى، بل عبر إعادة تربية شخصية المواطن الذي هو بمثابة قوام الدولة، وعبر تغيير الشرع أو القانون القائم وإعادة النظر في المفاهيم الحقيقية للرمز والقيادة . فالقوة أداة وليست غاية في حد ذاتها، لاتثمر ولاتؤتي أكلها دون تربية الناس على المنهج الصحيح للقانون الذي ينبغي أن يحكمهم.
وحين نتحدث عن إعادة تربية شخصية المواطن ، فذلك يشمل الطفل والشاب والمراهق والبالغ والشيخ الذكر منهم والأنثى . والتربية لاتعني التعليم بالضرورة ، بل نقصد بها تربية النفس على الوعي والإدراك بشرعية القوانين التي تحكم البلاد. فهل هي قوانين مستمدة من أخلاق وتاريخ وتقاليد وأديان الناس البسطاء العامة؟ وهل تمثل طموحاتهم وترقى الى مستوى تطلعاتهم ؟ أم أنها انعكاس لقوانين أجنبية مستمدة من فكر الإستعمار، ولاتخدم سوى النخبة الحاكمة؟
ولنرجع هنا الى العهد الإسلامي الذي يعتبر استثناء في التاريخ العربي المليء بالإستبداد ، لنجد أن رمز الدولة وقائدها لم يكن إنسانا ولانبيا ولاخليفة ، بل قانونا عادلا يخضع له الجميع دون استثناء، وفي طليعتهم القائد، و القانون العادل هو الذي يدعو الى تشديد العقوبة على القائد أولا في حالة المخالفة.
ولنسرد على ذلك القرآن كقانون خضع له آنذاك الجميع وفي طليعتهم النبي محمد (ص) وفيه مضاعفة للعقوبة على زوجات النبي في حال مخالفتهن للقانون القرآني باعتبراهن قدوة النساء في المجتمع العادل.
وبعد موت الرسول (ص) ، أسس أبو بكر أول بند في القانون العادل المستمد من التشريع الإلهي في أول خطبة له أمام العامة قائلا: "من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت" .
مفهوم الله في هذا السياق العقلاني هو رمز حسي غير ملموس لكنه موجود يوصل اليه عبر المعاني التي يجسدها وليس عبر التجسيد للذات الإلهية نفسها. فالله في هذا المضمار يعبر عن العدالة والقانون والحرية .
إذن القانون العادل لا يتمحور حول شخصية معينة ولوكانت هذه الشخصية تتمثل في النبي محمد (ص) المكلف بالرسالة نفسه، لأن الرسول وسيلة لإيصال وتطبيق وسن القانون العادل فقط، ولايجوز التخلي عن القانون الإلهي في حال موت الوسيلة .
ولن أحاضر هنا عن مفهوم القيادة بل سأترك أمثلة يسيرة تتحدث عن نفسها ، فهذا عمر بن الخطاب يقدم لنا صورة عن العدل الذي لايشمل الإنسان والنبات فقط بل يمتد الى الحيوان: "والله لو ان بغلة بالعراق تعثرت لسئلت عنها يوم القيامة". وذلك عمر بن عبد العزيز يخفّف الجبايات عن الموالي والفرس والنصارى، ويرفع الخراج عمّن أسلم من أهل الذمة. ويعوض النصارى عن مصادرة كنيسة القديس يوحنان بكنيسة توما في دمشق، ويقرأ القرآن على ضوء شمعة حتى لايأخذ ثمن زيت السراج حفاظا على مدخرات بيت المسلمين .
وهاهو الإمام علي بن أبي طالب أيام خلافته يجد درعا له سقطت من جمله عند يهودي فيطالبه بها لكن اليهودي يرفض مدعيا أنه صنعها لنفسه، فيلتجآن الى القاضي ليحكم بينهما، فيُحضر الإمام علي غلاما له وابنه الحسن كشاهدين ، لكن القاضي يرفض شهادة الحسن ابن أمير المؤمنين، ويرجح كفة اليهودي الكاذب على خليفة المسلمين، ليعتذر ويسلم بعدها اليهودي لما وجده في القانون الإلهي من عدل قائم على البينة ولو على حساب القائد.
ذلك المفهوم الناجح الناجع جعل الأمم الأخرى تتسابق نحو اعتناق الدين أو القانون الجديد لأنه مصاغ من قبل كينونة سامية عقلانية موضوعية غير بشرية. وكان ذلك سر نجاح الدستور العادل الجديد في مد خريطة العرب نحو آسيا وأوروبا وإفريقيا وأمريكا.
إن القانون العادل يخلق الدولة المتينة الركائز ويثبت دعائمها ويصل بها الى ربيع العمر حيث الإزدهار والرفاهية والحضارة، وفي تلك الحقبة تلجأ الدولة العادلة الى العلوم والفنون والصناعات المتطورة والتفنن في تفاصيل الحياة . أما الدولة الهشة المتآكلة فتخلق القوانين الاستبدادية لنفسها مؤسسة بذلك لأسس انهيارها على يد دولة مستبدة أخرى سوف تليها في دورة من دورات التاريخ المقبلة.
وقد خَلُص الفلاسفة الإغريق قديما وعلى رأسهم افلاطون في الجمهورية الفاضلة الى أن القانون الإنساني غير ناجع لأن مصدره الإنسان الميال الى التعدي بطبيعته . وقد أكد المتنبي تلك النظرية الإغريقية في بيته الشعري:
والظلم من شيَم النفوس فإن تجدْ
ذا عِفَّة فَلِعِلَّة لا يظلمُ
لذلك فإن نظم الحكم التي تصف نفسها اليوم بمصطلح الديموقراطية ،الذي يحمل في طياته مكونات الوهن، تكذب على شعوبها . يكفي أن نتساءل هذه الأسئلة التي لاتحتاج الى إجابة: إذا كان مصطلح الديموقراطية يعني حكم الشعب لنفسه ، فهل نجد حكما للشعب في الدول "الديموقراطية"؟ وإذا كان مفهوم الديموقراطية يدل على حماية حقوق الأقليات ، فهل ضمنت دول مثل أمريكا وفرنسا والدنمارك وهولندا حقوق الأقليات؟ وإذاكان مفهوم الديموقراطية يدعو الى استقلال القضاء ، فهل فعلا القضاء مستقل في الدول "الديموقراطية"؟ وأخيرا وليس آخرا، إذا كانت الديموقراطية تهدف الى التداول السلمي للسلط ، فهل يتم ذلك بمنأى عن تأثير المال وأصحاب المنافع في الدولة؟
أترك لكم الإجابة أيها العادلون .

ليست هناك تعليقات: