مع إعلان الإسرائيليين وقف إطلاق النار من طرف واحد، عادت أسئلة الحوار والمصالحة الفلسطينية لتطرح من جديد في الأروقة العربية (بل حتى الدولية كذلك!!)، ومعها بالطبع ما يتعلق بتبعات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
ولا شك أن خاتمة الحرب قد أصابت كثيرين بالإحباط، أعني من انتظروا رايات بيضاء يرفعها إسماعيل هنية ومحمود الزهار وسعيد صيام (رايته البيضاء كانت كفنا مزينا بالأحمر)، وهو ما دفع بعضهم إلى استخدام لهجة أخرى في سياق دعوة حماس إلى المصالحة، وكذلك الحال في سياق ترتيبات ما بعد الحرب.
حتى ما قبل وقف إطلاق النار لم يكن المعنيون بملف قطاع غزة في القاهرة قد يئسوا من توفير نافذة أخرى لنهاية الحرب لا تسمح لحماس بالقول إنها انتصرت.
لكن صمود قيادة الحركة ورفضها التراجع ما لبث أن اضطر الطرف الإسرائيلي إلى إعلان وقف إطلاق النار من طرف واحد، وبالطبع لأن الرئيس الأميركي الجديد لم يكن يريد لاحتفال تنصيبه أن يزين بصور الأطفال القتلى في قطاع غزة.
والأهم لأن العملية العسكرية استنفدت أغراضها، ولم يعد أمامها سوى التوغل في المناطق السكنية واحتمال الكثير من الخسائر، الأمر سيدمغها بالفشل في عرف مجتمع لم يعد بوسعه احتمال الخسائر، ولا تسأل بعد ذلك عن سؤال اليوم التالي للاجتياح الشامل إذا نجح، أو سيناريو الاضطرار إلى وقف العدوان في حال نزول الملايين إلى الشوارع إثر صمود المقاومة وتصاعد أعداد القتلى.
أوراق القوة بيد الأطراف المتصارعة
نشير إلى ذلك كي نقول إن الخاتمة التي انتهت إليها الحرب بدت بالغة الأهمية في سياق تحديد الأولويات التالية، وفي سياق أوراق القوة التي بات يمتلكها كلّ من طرفي النزاع الفلسطيني، وكذلك الطرف الإسرائيلي.
ففي حين خرجت حماس ومعها برنامج المقاومة بيد عليا من المعركة، خرج الطرف الفلسطيني الآخر مجللا بالعار، هو الذي جعل من الضفة أقل من أية عاصمة عربية أخرى في سياق التفاعل مع المعركة، ولم يتورع عن قمع المتظاهرين والاستمرار في اعتقال المجاهدين.
والنتيجة أنه لا حماس بعد معركة قطاع غزة هي حماس قبلها، ولا السلطة وقيادتها وحركة فتح قبل المعركة هي تلك التي كانت قبلها، ما يعني أن أوراق كل طرف باتت مختلفة، ومن الطبيعي أن يتبدى ذلك على طاولة الحوار بين الطرفين.
على أن أوراقا أخرى كثيرة، بعضها دخل حديثا وبعضها الآخر موجود من قبل، لا تزال تصب في صالح السلطة وتعمل حثيثا ضد حركة حماس، ما يعني أن ميزان القوى الشعبي هو الذي تغير بشكل لافت، بينما بقي ميزان القوى الآخر على حاله، وإن ظهر بعض التحسن في سلوك بعض الأنظمة ذات العلاقة الجيدة أصلا مع حماس.
في هذا السياق تبدو المواقف الأميركية على حالها من الانحياز "للدولة العبرية"، وبالتالي للطرف الفلسطيني الذي تشجعه في الصراع، الأمر الذي ينسحب على المواقف الأوروبية، وإن بدا أن تلك المواقف جميعا قد دخلت منحنيات أكبر من السوء، وبالطبع تبعا للقناعة بضرورة الدفع في اتجاه مواقف تخدم حزب كاديما في الانتخابات في مواجهة الليكود بزعامة نتنياهو، لا سيما بعد أن تبين أن نتيجة الحرب لم تغير كثيرا في استطلاعات الرأي، إذ بقي الليكود متقدما، وإن تحسن وضع حزب العمل بعض الشيء.
إلى جانب المواقف الأميركية الأوروبية، يأتي الموقف المصري الذي لم يتغير كثيرا في انحيازه ضد حركة حماس للاعتبارات المعروفة (الموقف منها كامتداد لجماعة الإخوان المطاردة في الداخل، إلى جانب الاستجابة لضغوط الخارج لاعتبارات الوراثة والخلافة).
بل لعله صار أكثر حرصا على التخلص من كابوس "إمارة غزة" بعد الصداع الذي تسببت به للنظام الذي أصابته لعنات المعركة الأخيرة، ربما أكثر من الصهاينة أنفسهم.
وعندما تنسجم بعض المواقف العربية المهمة مع موقف القاهرة كما تجلى ذلك في قمة شرم الشيخ الثلاثية واجتماع أبو ظبي، فسيصب ذلك كله في صالح السلطة، فكيف عندما تكون دائرة المخابرات المصرية هي العنوان شبه الوحيد للحوار والمصالحة، الأمر الذي لن يتغير إلا في سياق تدخلات أخرى لا بد أن ترضى عنها السياسة المصرية كما هو حال التدخل اليمني الذي سبق أن فعل ذلك في ذات السياق، أعني خدمة الأجندة المصرية، فكانت النتيجة المعروفة التي انتهى إليها الحوار، حيث فسر كل طرف "إعلان صنعاء" بطريقته فانتهى إلى لا شيء.
والخلاصة أنها دكتاتورية الجغرافيا التي لا تدع لحماس مجالا غير التعاطي مع القاهرة في سياق مناقشة أي ملف من ملفاتها، من دون أن يعني ذلك ضرورة الاستجابة لكل ما يعرض عليها.
ملفات حوار ما بعد المعركة
هناك العديد من الملفات المطروحة على أجندة الحوار والمصالحة هذه الأيام، إضافة إلى الملفات المتعلقة بمفاوضات حماس مع الجانب الإسرائيلي بصرف النظر عن الطرف الذي سيدير الحوار، وهي ملفات يجري ربطها والتعامل معها بحسب الأجندة التي يتبناها هذا الطرف أو ذاك.
خلاصة تلك الملفات هي التهدئة، وحكومة الوحدة أو حكومة التكنوقراط، وإعادة الإعمار، وفتح المعابر ورفع الحصار، وتهريب السلاح، والجندي شاليط، والانتخابات التشريعية والرئاسية المتزامنة، وربما دخلت على الخط قصة منظمة التحرير والمرجعية الجديدة التي تحدث عنها خالد مشعل.
من المفيد القول ابتداء إن أهم ملفات الابتزاز الجديدة لحركة حماس ما يعرف بملف إعادة الإعمار (بخاصة مواد الإعمار من إسمنت وحديد وغير ذلك)، حيث تصر جهات عديدة على عدم منحها لحكومة الحركة "غير الشرعية"، بينما يرى آخرون منحها لحكومة رام الله، فيما ظهرت مقترحات أخرى كذلك الذي تحدث عنه عمرو موسى ممثلا في استبعاد الطرفين الفلسطينيين وإيجاد آلية أخرى.
فيما يتعلق بالتهدئة، التي هي العنصر الأهم، من الواضح أن الإسرائيليين قد اقتنعوا باستحالة فرض تهدئة دائمة، الأمر الذي كان واحدا من أهداف العدوان على قطاع غزة، ولذلك طرحوا تهدئة لمدة عام ونصف، في حين تطلب حماس وقوى المقاومة تهدئة لعام واحد، لكن ربط التهدئة بالملفات الأخرى ما زال يعيق الصفقة.
وإذا اعتبرنا أن جميع ملفات الحوار تهم الإسرائيليين، تبعا لاهتمامهم بمصير الوضع الفلسطيني برمته، فإن ما يعنيهم، إضافة إلى التهدئة، هو مصير الجندي الأسير شاليط، الذي يسعى أولمرت للإفراج عنه على أمل أن يضيف إلى سجله نقطة جيدة أخرى تمسح ما تراكم فيه من سواد، فضلا عن مساعدة حزب كاديما في الانتخابات في العاشر من هذا الشهر، في ذات الوقت الذي قد يقنع المجتمع الإسرائيلي بأن نتائج الحرب كانت جيدة.
في هذا السياق يضغط الإسرائيليون من أجل تهبيط سقف مطالب حماس من الصفقة، صفقة الإفراج عن شاليط، وبالطبع حتى لا يقال إنهم خضعوا لمطالب الحركة، لكن الأخيرة تصر على مطالبها، الأمر الذي قد يؤجل الصفقة برمتها أو يفضي إلى صيغة حل وسط يفرج من خلالها الإسرائيليون عن عدد من الأسرى "الخطرين" أو المصنفين "دم على الأيدي"، ولكن بشرط نقلهم إلى قطاع غزة كما ذهبت بعض الصحف الإسرائيلية، وهو عرض قد توافق عليه حماس، مع العلم أن أولمرت وقادة جيشه يعتقدون أن تهديد قادة حماس بعدم رؤية النور قبل الإفراج عن شاليط قد يساهم في تمرير الصفقة، الأمر الذي لن يحدث لأن الخضوع للابتزاز مرة سيشجع الإسرائيليين على مزيد من الابتزاز.
الأمر الآخر الذي يعني الطرف الإسرائيلي بشكل كبير هو موضوع تهريب السلاح، وفي هذا السياق يدرك القوم أن حماس لن تتعهد بوقف التهريب، وأن التفاهم بشأن هذا الملف سيتم مع الجانب المصري، فضلا عن التعاون الدولي الحثيث (بدأت فرنسا المسيرة وقد يتبعها آخرون).
هناك بالتأكيد ما يتعلق برفع الحصار وفتح المعابر، وهو ما تربطه حماس بالتهدئة، بينما يصر الطرفان الإسرائيلي والمصري (كل لاعتباراته بالطبع) على أن يتم ذلك بناء على اتفاق 2005، الأمر الذي لا ترفضه حماس بالكامل، لكنها تريد صيغة جديدة لهذا الملف لا تترك المعابر رهنا بالمزاج الإسرائيلي كما كانت على الدوام، في وقت تصر فيه على حل معضلة معبر رفح الذي يشكل الرئة الوحيدة التي يتنفس منها أهل القطاع.
الطرف المصري بدوره يضع نصب عينيه هدفا بالغ الأهمية عنوانه التخلص من الوضع الشاذ الذي يعيشه القطاع وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الانتخابات، وهنا لا بديل عن مسار المصالحة وإنهاء الانقسام، الأمر الذي ينبغي أن يبدأ بحكومة وحدة وطنية مهمتها إعادة الإعمار وترتيب الأجواء لانتخابات رئاسية وتشريعية متزامنة، ما يعني تجاوز قضية أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس قد انتهت ولايته.
أما ربط عباس الحوار مع حماس باعترافها بمنظمة التحرير ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني، فلا يعدو تحسينا لوضعه على طاولة الحوار، إذ سبق أن تحدث عن هذا الشرط ثم تجاهله بعد ذلك.
في السياق ذاته يجري وضع قضية إعادة الإعمار ضمن ملف حكومة الوحدة، وبالطبع من أجل الضغط على حركة حماس، إضافة إلى تلويح الطرف الإسرائيلي بأن عملية "الرصاص المصهور" يمكن أن تتكرر مرة أخرى إذا لم تتحقق الأهداف المرجوة منها، الأمر الذي قد يتم قبل أو بعد الانتخابات، بحسب تطورات الوضع على الأرض ولعبة المزايدات الإسرائيلية.
حماس بدورها تصر على ترجمة انتصارها العسكري في السياق السياسي، فهي من جهة تريد فك الحصار وإعادة المعابر، في الوقت الذي لا تريد فيه العودة إلى قصة المصالحة من ذات المربع القديم، حتى لو تم التوافق على حكومة وحدة وطنية، الأمر الذي لن يتم في حال إصرار المصريين وسواهم على تلبيتها لشروط الرباعية الدولية، لا سيما أنها شروط لو وافقت عليها حماس لشطبت نفسها سياسيا، ولأكدت أنها هزمت في المعركة وقدمت بعدها وثيقة استسلام، ونتذكر أن الشروط المذكورة هي ثلاثة جميعها سيئة: الاعتراف بالمعاهدات والالتزامات التي وقعتها السلطة والمنظمة، والاعتراف بدولة الاحتلال، ونبذ العنف.
من جانب آخر تسعى حماس إلى تجاوز الوضع الراهن، تساعدها في ذلك حركة الجهاد وفصائل أخرى في دمشق، وذلك عبر الدعوة إلى مرجعية لقوى المقاومة، مع استمرار الدعوة إلى إعادة تشكيل منظمة التحرير على أسس ديمقراطية.
في ضوء هذه التعقيدات جميعا، يبدو من الصعب الجزم بما إذا كان الحوار سيصل إلى نتيجة قبل الانتخابات أم لا، فضلا عن الجزم بتفاصيل تلك النتيجة، والسبب أن مطالب أطرافها تنطوي على قدر كبير من التناقض، أكان بين حماس والإسرائيليين، أم بين حماس والسلطة المدعومة من الطرف المصري.
هي معركة سياسية بالغة الأهمية لن تحقق فيها حماس ما تريد من دون استمرار دعم الشارع العربي وقواه الحية، ومن دون إسناد أكبر من محور الممانعة.
لكن الأهم من ذلك هو أن إقلاعا حقيقيا للوضع الفلسطيني لن يتم من دون حل معضلة حركة فتح المخطوفة عمليا من قبل فريق "رفض العسكرة" (أي المقاومة)، ومن دون التوافق على مرجعية للشعب الفلسطيني في الداخل والخارج تتجاوز تلك السلطة المصممة لخدمة الاحتلال، سواءً كانت تلك المرجعية هي منظمة التحرير بعد إعادة تشكيلها أم مجرد مرجعية لقوى المقاومة يعنيها الاعتراف الشعبي وليس العربي والدولي المعروف الثمن.
السبت، فبراير 14
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق