السبت، فبراير 14
الرأسمالية : هل حان موعد صلاة الجنازة؟
بقلم: فؤاد وجاني
لم يكن جون لوك المروج لنظرية الملكية الفردية كغريزة إنسانية طبيعية في القرن السابع عشر ليتنبأ بسقوط الرأسمالية ووصولها الى الحضيض. ولم يتخيل آدم سميث مؤلف كتاب "بحث في طبيعة وأسباب ثروة الأمم" يوما تنقلب فيه ثروة الغرب رأسا على عقب. لكن منذ أسابيع قليلة فقط أكدت إيران سقوط النظام الرأسمالي على لسان الناطق باسم حكومتها غلام حسين الهام الذي اعتبر ان رغبة الرئيس الاميركي باراك اوباما بالتحاور مع ايران تشكل اشارة الى “انهيار الفكر الرأسمالي” والولايات المتحدة.
لقد ظلت الرأسمالية ولقرون متوالية تؤمن بنظام اقتصادي يتميز بالملكية الفردية وملكية الشركات للسلع الرأسمالية عبر الإستثمارات التي تخضع للقرارات الخاصة والأسعار والإنتاج وعملية توزيع السلع وسلطة التنافس في السوق الحرة.
وشقت الرأسمالية طريقها في خلايا نسيج المجتمع الإنساني بثبات، واستطاعت مسايرة دورات التاريخ المتغيرة وأمزجة الشعوب المتقلبة وتشريعات السياسات الحكومية . فهاهي اليوم تحترم المعايير البيئية الصارمة عبر انتهاج سياسات خضراء وتحسين طرق استخدام الطاقة وتخفيض استهلاك المياه والتقليل من المواد المضرة للبيئة المستعملة في التغليف والتعبئة . وبانتهاجها تلك السياسة، تكون قد نجحت في الإرضاء المضلل للأجيال المستهلكة الصاعدة وفي تخفيض تكاليف الإنتاج والتسويق دون المس بروح الرأسمالية مكتسحة أسواق المعمور من أقصى بلاد الغرب الى آخر بلدة في الشرق.
وتجذرت ثقافة الرأسمالية في المجتمعات الغربية والشرقية على حد السواء . فبالرغم من مقاومة بعض الأفراد للإغراء الذي تحدثه الدعاية إلا أنه من الصعب تحصين الذات من موت بطيء تسببه ثقافة الإستهلاك . فالناس اليوم يتعرضون في كل زمان ومكان للإعتداء النفسي والإجتماعي والروحي من قبل الأصولية الرأسمالية التي تجعلهم يؤمنون بتزايد التوقعات المادية، وتقلل من التواصل البشري، وتدعو الى الإستيعاب الذاتي، وتطمس الإعتماد على النفس، وتبعدهم عن حقهم الطبيعي في ردود فعل عاطفية طبيعية إنسانية، وتبيعهم آمالا كاذبة لاتخلق سوى المزيد من الألم والمتاعب.
مسببات سقوط الرأسمالية إذن ليست وليدة اليوم ولاهي بحديثة العهد ، بل جاءت عبر تآكل مطرد في مجال أخلاقيات الأعمال ومعايير الإلتزام التجارية. فقد سعى كبار الرأسماليين منذ مطلع القرن الماضي الى تحديد القوانين المنظمة للتجارة والأعمال عبر الإستيلاء على مراكز التشريع والقرار والأبناك العالمية، وسلكت الرأسمالية درب تغييب الحقيقة واعتماد التضليل ، فأصبح قول نصف الحقيقة أو الكذب المتعمد خيارا تكتيكيا في مجال الحياة الرأسمالية . فتناسى الرأسماليون ومن يدور حول كعبتهم بوول ستريت أن في درب التضليل قصر نظر ونهاية عمر .
وقد دشن إفلاس "إنرون"، إحدى كبريات شركات الطاقة الأمريكية، في ديسمبر من سنة 2001 بداية نهاية الإنحلال الرأسمالي . ويعود إفلاس إنرون الى سببين رئيسيين: أولهما في مجال المحاسبات حيث حقق كبار مدراء الشركة أرباحا خيالية عبر التلاعب بتقارير أرباحها السنوية ، وثانيهما سياسي حيث ركزت إنرون على البيت الأبيض عبر قيامها بتمويل حملة جورج بوش آنذاك بمقدار 2.3 مليون دولار.
وفي مايلي سرد وجيز لبعض الأمثلة المختلفة التي توضح مدى تشعب خيوط الرأسمالية في العالم. ففي عام 1994 ، قررت حكومة هايتي رفع التعريفات الجمركية والسماح للواردات الرخيصة ، المدعومة من الأرز والمحاصيل الأخرى من الخارج. كانت هذه سياسة أوصى بها صندوق النقد الدولي ، وحثت عليها الحكومة الامريكية. وقد أدى ذلك على مدى سنوات إلى فقدان ما يقدر ب 830000 وظيفة ، وانعدام الأمن الغذائي ، وتدمير سبل العيش في الأرياف ، مما أدى في النهاية إلى أعمال شغب بسبب الجوع وقلة الغذاء عام 2008.
مثال آخر يأخذنا الى دولة الإكوادور حيث أثرت شركة النفط "شفرون تكساكو" العملاقة على الحكومة هناك لترمي بنفاياتها السامة بنهر الأمازون على حساب صحة وسلامة سكان المنطقة. أما بالهند ، فقد أرغمت الرأسمالية الفلاحين على القبول بالبذور المعدلة وراثيا من القطن مما تسبب في تلف المحاصيل ، وفي دوامة من الديون وانتحار مئات من المزارعين .
وفي المملكة العربية السعودية في عام 2004 ، لقي ثلاثة اشخاص مصرعهم في متجر "ايكيا" العملاق إثر تدافع شديد بين المتسوقين للحصول على واحدة من عدد محدود من بطاقات الائتمان بقيمة 150 دولار. وبالمثل ، في تشرين الثاني / نوفمبر 2008 ، توفي مواطن بسيط في نيويورك ب"وول مارت" بعد أن دهسه المتسوقون المهرولون لشراء واحدة من عدد محدود من شاشات البث المرئي الفائق الجودة (HDTV) من حجم خمسين بوصة. في حادث ال"وول مارت" مثلا ، لم تذكر وسائل الإعلام شيئا عن الثقافة الإستهلاكية وجنون المعلنين وعبادة الأشياء الرخيصة التي تحول الفرد الى مادة استهلاكية ومستهلكة في المجتمع الرأسمالي، بل ركزت على جنون حشد المتسوقين وفشل المسؤولين ب"وول مارت" في توفير مقومات الأمن والسلامة.
أما العراق فيعد القطرة التي أفاضت الكأس والتي وضحت توضيحا لابدعو الى شك مدى تحكم الرأسماليين في مواقع القرار ، فقد لجأت شركات "تيتان" و"كي. بي. آر" و "هاليبورتون" إلى أسلوب الابتزاز وتقديم الرشاوى للظفر بعقود في العراق لخدمة الجيش الأميركي حتى قبل أن تنطلق الحرب ، فضلاً عن تورط ضباط في الجيش الأميركي في تلك العقود. كما أن شركة "كيلوج براون أند روت" أحد الفروع التابعة لشركة "هاليبرتون" تهربت من دفع مئات الملايين من الدولارات المستحقة عليها كضرائب، وذلك من خلال توظيف عمال وهميين في جزر "كايمان". وقد استفادت شركة "هاليبرتون" التي تمتلك 58 فرعاً في جزر الكاريبي، التي تعتبر جنة ضريبية، من علاقات "تشيني" حتى قبل أن يدخل السياسة، حيث انخفض حجم المدفوعات الضريبية للشركة تحت قيادة "تشيني" من 302 مليون دولار في عام 1998 إلى 0 في عام 1999. ولم تنقطع علاقة تشني مع "هاليبورتن" بعد أن أصبح نائبا للرئيس بوش حيث استفادت "هاليبورتون" بعقود حكومية وصلت قيمتها الى 18.5 مليار دولار . كما أن أخ بوش "مارفين"، أحد مؤسسي شركة "وينستون بارتنرز"، قام بتسهيل عملية الفوز بعقود أمنية في العراق لفائدة شركة "نور" التي تدعي أن لديها خبرة وتجربة في مجال التدريب العسكري وتأمين الأسلحة، فحصلت على عقود قيمتها 327 مليون دولار تنص على تجهيز القوات المسلحة العراقية وفيلق الدفاع المدني بالمعدات الضرورية. وقد تعاونت الشركة مع "أحمد الجلبي" الذي لعب دوراً بارزا في التحريض على حرب العراق. وقد كشفت آخر التحقيقات أن الشركة المعنية لا تملك أدنى خبرة في تجهيز القوات المسلحة. أما مستشارا وزير الدفاع الأميركي السابق "دونالد رامسفيلد" فقد بالغا في التحريض على الحرب على العراق في نفس الوقت الذي كانت فيه استثماراتهما في شركة "بوينج" تتضخم بسرعة مع تعالي أصوات طبول الحرب. ولم تسلم أيادي أعضاء الكونغرس من دماء العراق، حيث أن 151 عضواً في الكونجرس استثمروا ما بين 78.7 مليون دولار و195.5 مليون دولار في الشركات التي حصلت على عقود في العراق.
إن شجع الشركات الرأسمالية التي تجني الأرباح عبر الدعوة والتحريض على سفك الدماء لن يقتصر أثره السلبي على الإقتصاد الأمريكي فحسب بل إن العراق لن يكون بمقدوره التخلص من الديون المسيطرة على اقتصاده ودواليبه حيث سيبقى العراق مدينا لبريطانيا والولايات المتحدة لعقود قادمة .
لقد حاولت بعض دول أوروبا الشرقية مثل روسيا محاولة التخلص من الأزمة الرأسمالية عبر التخلص من الدولار عبر مراحل، لتفاجأ بأن واردتها وصادراتها ومدخراتها بالدولار. فالدولار منذ خلقه كان ولايزال العملة الرأسمالية الأكثر استعمالا في المعاملات الدولية ، بالرغم من كونه العملة الوحيدة الغير مغطاة قيمتها بالذهب، وذلك منذ سنة 1973 حين امتنعت الحكومة الأمريكية عن تلبية طلب رئيس الجمهورية الفرنسية آنذاك "شارل ديغول" باستبدال الدولارات بالبنك المركزي الفرنسي بما يعادلها ذهبا .
أما دول الخليج ، باستثناء دولتي الإمارات العربية المتحدة وإيران، فاقتصادها مرتبط حصريا بعائدات النفط الذي لابد له من أسواق رأسمالية يكثر فيها استهلاك الطاقة.
لذلك فإن ربط التعاملات التجارية الدولية بمعياري الدولار والنفط اختراعان رأسماليان محضان وذكيان يجعلان النظام الرأسمالي يتحكم في مسار الأسواق العالمية ويجعل دول الشرق أكثر تضررا من الغرب في حال الأزمة.
لقد بدأت الحكومات الغربية تعي دور الأخلاقيات في الممارسات الإقتصادية عبر الحد من أجور المدراء وإلغاء منحهم واعتماد الشفافية . فهاهو رئيس الوزراء الاسترالى "كيفين رود" يقر بان الأزمة المالية العالمية تتطلب استخدام السلطة الحكومية "لإنقاذ الرأسمالية من نفسها."
وفي هذا الإطار تندرج الخطة التي اقترحها الرئيس أوباما ومكتبه والتي صادق عليها مجلس الشيوخ الأمريكي بقيمة 838 مليار دولارلإنقاذ الاقتصاد الأمريكي المترنح جراء الأزمة المالية العالمية ، والتي تعد الحزمة الثانية من نوعها بعد خطة الرئيس السابق جورج بوش بقيمة 700 مليار دولار. لكنها في نفس الوقت، تعد تأبينا رسميا لنظام الرأسمالية . فتدخل الدولة يتنافى مع أبسط مبادئ الرأسمالية، لكنه تدخل ضروري قد يبطئ من زحف سيل الكارثة دون أن يحول من وقوعها. فخطة الإنقاذ تجاهلت الجوانب الإجتماعية التي تمس المواطن مباشرة وتؤثر على سلامة الإقتصاد بشكل عام كالصحة والتعليم والعدل. وركزت على الجانب المالي عبر التحكم في الأبناك وتأميم بعضها وتخفيض الضرائب وفرض الرقابة الحكومية.
ختاما، يبدو أن الرأسماليين لازالوا يؤمنون بنظريات اقتصاد السوق، وبأن خطط الإنقاذ قد تحيي نظاما اقتصاديا يشهد سكرات الموت. لكن المسألة باتت تتعلق بتغيير النظام الإقتصادي برمته وبتعديل ثقافة مجتمع بأسره والبحث عن خير نظام وريث قادر على ضمان أمن الشعوب قبل رفاهية اقتصادها بل إعادة بناء أخلاق الإنسان الغربي بدل تبني حلول مالية ظرفية تؤجل الإعلان عن الوفاة الرسمية للرأسمالية.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق