الجمعة، أغسطس 7

اللغة العربية مسئولية قومية


بقلم :أحمد سويلم


لسنا في حاجة إلي تأكيد قيمة اللغة وموقعها لدي الأمم في إحداث التغيير وإذكاء الروح القومية‏..‏ وتحقيق الأهداف بما تحمله من آداب وإبداعات وأفكار‏..‏ ولابد أننا علي يقين من أن ثورة‏23‏ يوليو لم تأت من فراغ ثقافي‏..‏ فعودة الروح لتوفيق الحكيم‏..‏ وكتابات طه حسين والعقاد والمازني‏..‏ وأشعار شوقي وحافظ وغير ذلك قد قامت بدور كبير في رسم خريطة التغيير الثوري‏..‏ تماما كما حدث في الثورة الفرنسية‏(1789)‏ والتي قامت بعد عصر التنوير ورجاله فولتير وروسو وغيرهما‏..‏ وكما حدث مع ثورة روسيا‏(1917)‏ حيث كانت نتاجا للغة وأفكار بوشكين وجوجول ودستيوفسكي وغيرهم‏.‏ ومن ثم فإن اللغة هي الأداة الأولي للتواصل الاجتماعي‏..‏ والثورات في جوهرها جماعية‏..‏ وكلما استطاعت اللغة حمل الأفكار والقيم والفكر تطور معها المجتمع‏..‏ وكلما تشوهت أو تراجعت تشوه وتراجع معها المجتمع‏.‏

ويشهد واقع اليوم تراجعا خطيرا للغة الفصحي‏..‏ كاد يضعها في إطار ضيق لتعبر عن الفقه والتوحيد والعبادات فحسب‏..‏ وفي هذا هدم للركيزة الأساسية لتراثنا وهويتنا‏.‏ وأحسب أن مظاهر هذا التراجع تتبدي واضحة في لافتات المحلات‏..‏ وإعلانات الشوارع وفي معظم أسماء برامج التليفزيون والإذاعة وكل هذا يخرج علينا باللغة الأجنبية بقصد ملاحقة العصر والعولمة‏..‏ ونري أن هذه الإعلانات والبرامج لا تصنع ثقافة‏..‏ بل تمثل قشور الحضارة‏..‏ وتساعد علي التواء اللسان‏..‏ وفراغ العقل‏..‏ والوجدان‏..‏ كما تتبدي هذه المظاهر كذلك في سيادة العامية ومزاحمتها للفصحي في كل مجالات حياتنا‏..‏

خاصة في وسائل الإعلام‏..‏ وفي خطب وأحاديث المسئولين‏..‏ ونكاد نوقن ان يدا خفية تبغي القضاء علي هويتنا وشخصيتنا‏..‏ تعبث ليل نهار دون ان يردعها رادع‏..‏ وتستجيب لها مؤسسات الدولة دون ان تفكر في النتائج‏...‏ فتمحو في وسائل الإعلام كل ما يتصل بالثقافة‏..‏ وتشجع كل ما يمنح شبابنا فراغا وتسلية واستلابا للغته وهويته‏.‏ وقد يشكو البعض من جمود الفصحي وعجزها عن حمل مضامين العصر‏..‏ وفي الحقيقة تكمن المحنة فينا نحن في كل مجالات حياتنا‏..‏ فبعضنا متعصب للفصحي تعصبا أعمي لا يقبل لها تطورا‏..‏ بل يحتضنها حتي الاختناق ـ ومن الحب ما قتل ـ ولا يكاد يسلم إلا بفصحي الاصمعي أو الحريري أو بديع الزمان‏..‏ وهذه محنة كبري‏..‏ وبعضنا الآخر أمام هذا التعصب‏..‏ ينفلت من اسار الفصحي إما الي عامية فجة تتبدي في الأغاني الهابطة والحديث اليومي‏..‏ والفضائيات التي تدخل كل بيت‏..‏ بل في بعض الصحف التي هجرت عذوبة الاسلوب أو ينفلت الي لغة اجنبية يزهو بها‏..‏ وتصدمنا في كل مناحي حياتنا‏..‏ وتلوث آذاننا وعيوننا ومشاعرنا‏.‏

وقد يتساءل البعض أمام هذه الصورة الواقعية المحيرة‏:‏ هل تهبط الفصحي إلي العامية‏...‏ أم نرتفع بالعامية الي الفصحي‏..‏ وربما لو صيغ السؤال هكذا كان أفضل‏:‏ هل نيسر الفصحي أم نفصح العامية؟

لقد فتحت النهضة المعاصرة باب التواصل مع العالم‏..‏ فحدث ما يشبه التلاقح بين اللغات‏..‏ وهناك محاولات‏(‏ معجمية‏)‏ لتفصيل ذلك‏..‏

بل هناك دراسات تؤكد قدرة الفصحي وسعتها لاستيعاب كل شيء بما فيها العلوم‏..‏ لكن هذه المحاولات المخلصة ـ للأسف ـ تظل حبيسة الأدراج مع أهميتها في اقناع شبابنا بلغته الجميلة‏.‏

ويقول العلماء‏:‏ إن للكلام وظيفتين‏:‏ اسهام اعلامي موضوعي‏..‏ وتواصل ذات يحمل قيم الفكر والثقافة‏.‏

وكما يقال لكل مقام مقال‏..‏ فان الألفاظ بلا شك يتغير مفهومها من عصر الي آخر‏..‏ ومن مناخ لغوي الي مناخ آخر‏..‏ وليس هذا بدعا ليس له سابق‏..‏ فقد فعلت ذلك اللغات الأخري مثل الصينية والعبرية‏.‏ وبقدر ما في الانجليزية‏..‏ فقد أعاد الصينيون النظر في لغتهم وأبعدوا عنها ما يسيمها بالتعقيد فتواصلوا مع العالم وصاروا أبناء دولة كبري‏...‏وأحيا اليهود لغتهم العبرية بعد زمن طويل من الهجر والإهمال وصارت اليوم لغة علي ألسنة الساسة اليهود اعتزازا بها بعد احيائها وتطورها‏.‏

أما حال لغتنا العربية اليوم‏..‏ فهي انعكاس صادق لتفكك الأمة العربية‏,‏ إنها مهددة بالضياع علي أيدينا لأننا أهملنا الحفاظ عليها وتطويرها‏..‏

ومن المعروف ان اللغة العربية واجهت أخطارا وتحديات كبيرة‏..‏ ولكنها استطاعت برغم ذلك الصمود والاستمرار‏..‏ ويذكر التاريخ المعاصر ان مجلة المقتطف‏(1881)‏ كانت قد طرحت فكرة كتابة العلوم بالعامية المصرية‏,‏ فأثارت ضجة في الأوساط الثقافية أبدع علي أثرها حافظ ابراهيم قصيدته الشهيرة‏(‏ العربية تنعي حظها بين أهلها‏)‏ في عام‏1903‏ ـ ودعا عيسي اسكندر المعلوف عام‏1902‏ الي اللهجة العامية ورأي ان الفرق بين لغة الحديث ولغة الكتابة من أسباب التخلف‏..‏

وفي عام‏1945‏ دعا سلامة موسي الي كتابة العربية بحروف لاتينية‏..‏ وأصدر أحمد تيمور‏(‏ معجم الألفاظ العامية ـ ومعجم الأمثال العامية‏)‏ وفعل ذلك أحمد أمين‏...‏ وحاول توفيق الحكيم استحداث لغة‏(‏ وسطي‏)‏ بين العامية والفصحي لكن هذه المحاولات وغيرها باءت بالفشل أمام صمود الفصحي وقدرتها علي استيعاب متطلبات العصر‏..‏ وصدرت القوانين والقرارات التي تحافظ عليها وتحظر كتابة اللافتات بغير العربية وتعاقب المخالفين‏...‏ كان آخرها قانون‏(112‏ لسنة‏2008)‏ الذي جعل مجمع اللغة العربية مسئولا عن حث دور التعليم والإعلام علي استخدام اللغة العربية‏..‏ كما عقدت المؤتمرات التي تطرح هذه القضية‏..‏ وتنفض دون جدية أو تحقيق مستوي أدني من الاهتمام‏.‏

المشهد إذن يدعو إلي الرثاء في وجود هذا التنافس الخطير بين وسائل الإعلام والإعلان في ظل العولمة العصرية ويصبح الخطر ليس ضد الفصحي فحسب وإنما هو ضد القيم والتعليم والثقافة في الهوية والتاريخ العربي‏..‏ ولن ينقذ اللغة قانون يصدر‏..‏ وإنما ينقذها ان تصبح مشروعا قوميا خالصا‏..‏ ينظر الي الهجوم عليه بأنه جزء من المؤامرة علي مقدراتنا وهويتنا‏..‏ وبغير ذلك لن تقوم للغتنا قائمة‏.‏

ليست هناك تعليقات: