الأحد، ديسمبر 16

الولية الصالحة ذات الحاءات الأربع

في تقاطع شارعي كولفاكس وبرودواي يتفتح مسرح الحياة كوردة ياسمين بكل ألوانها وممثليها وأبطالها وضحاياها، وتفوح رائحة العلم والكتب المنبعثة من المكتبة العمومية الممزوجة بعطر بائعات الهوى ومخدرات العقل .
بين مزاحم الأقدام ، تتشابك الأنظار في سوق تكاد تشبه سوق عكاظ حيث يدلو فيها كل بدلوه . الطلاب والطالبات يتنافسون في الكشف عن أجسامهم في صالة العرض الكبرى وقد شدوا الرحال على متن سفن الإبحار العلمي ، المتسولون السكارى يترنحون وقد بلغوا أقصى درجات الحكمة المختزلة في قنينة كحولية، العاهرات المتزينات بأقمشة تنسجم وفصل الربيع حيث يحصل التزاوج الطبيعي بين الحيوانات، المحجبات المتنمصات ذوات الشفاه الحمراء وقد التحمت سراويل الجينز الحلال بثنايا أرجلهن، المحامون بابتسامتهم المتربصة وربطة العنق المحكمة التي توهمهم بمرافعات حبل المشنقة …. أحسست بالدوار والغثيان ، عيناي الباحثتان عن التقاط صورة واحدة للحياة أنهكهما العياء، الجثث الحية الهامدة في كل مكان، المشهد درامي الى أبعد الحدود ، يوشك الموت أن يفقد حلاوته في غياب حياة واحدة. قررت العودة الى البيت بخفين من كولفاكس ، المشاهد تتكرر كل مرة ، لن أعود لمسرح العصور المظلمة .
لكن ، فجأة توقفت سيارتي أمام الضوء الأخضر، الله أكبر ، الله أكبر، الله أكبر، توقف الزمن المهرول لبضع ثوان ، المشهد حي رائع:
امرأة عجوز ببشرتها البيضاء كالثلج، وابتسامتها الحزينة كصقيع الشتاء، وعينيها العميقتين كزرقة البحر، و شيب شعرها الكثيف كسحابة الصيف ، وقفت كشجرة شامخة العنفوان، ألقت بفيئها على وسط المدينة كلها كنخلة عراقية ، خجلت كل ناطحات السحاب أمام سموها وجلالتها.
المرأة العجوز واقفة صامدة أمام مهب الريح وقد حضنت بكل مافي الكون من أنوثة قطعة لوح كبيرة كتب عليها بأحرف انجليزية ضخمة : "لا للحرب في العراق، نعم للسلام ، لا للموت نعم للحياة ،
نعم للحرية ، نعم للحلم، نعم للحب" .
تركت السيارة واقفة أمام الإشارة الخضراء وسط الطريق رغم صياح السائقين ولغو الضالين ، يعتريك احساس صوفي عند التوقف بينما الآخرون ماضون قدما نحو المجهول، تسمرت أمام الملاك العجوز النابضة بالحياة ، دمعت عيناي وهي تبارك هذه السمفونية الإنسانية الصامتة. قبلت رأسها دون أن أنبس ببنت شفة، الكلام في موقف كهذا يعد ابتذالا، تم عقلها فغاب كلامي ، وددت لوأني أحمل وردا كي أنثره على روحها .
الحقل المغناطيسي للأرض يعمل على ارتجاج 7.83 هرز. وحدها المرأة العجوز كانت قادرة على خفض موجات دماغها الى نفس المستوى لتتواصل وتتناغم طاقتها مع الأرض.
رحم الله سيد مكاوي حين غنى: "الأرض بتتكلم عربي … الأرض … الأرض"
المرأة العجوز، أطال الله عمرها ، تقف في نفس التقاطع كل يوم جمعة بينما تقفون وراء الإمام ترديدا لكلمة آمين . ان لم تروها يوما فاعلموا أن روحها قد صعدت للسماء، ولاتنسوا أن تبنوا على ضريحها قبة ، وزوروها كل يوم خميس لتشفيكم من أسقام الخوف والدكتاتورية والعبودية والكراهية ولتستجيب لدعوات الحياة والحرية والحلم والحب ، فانها حتما لجديرة بمنزلة أولياء الله الصالحين.

ليست هناك تعليقات: