الأحد، ديسمبر 16

صرخة مفتوحة في وجه مفتي الأمة

تسألني النادلة : ماذا تشرب ياسيدي؟

أجيب وسط الضوضاء بصوت دافئ خافت يسخر من ضجيج المقهى : " قهوة مع حليب مع الإ كثار من السكر من فضلك، فالعربي يعشق الحلاوة لتجرّعه المرارة منذ الصغر"

النادلة : "لم أسمعك ياسيدي ، ان صياح القوم ولغوهم هنا طوال النهار سيفقدني سمعي يوما من الأيام" .

شردت بذهني كالعادة. لعلها المرارة تغتالني كل لحظة، وسوط التاريخ الذي يجلد ظهري كل يوم وليلة ألف جلدة وجلدة. إنها المأساة كوني أحمل في جوفي قلبا عربيّا شرايينه تمتد من المغرب الى العراق، أوردته ترتوي من دجلة والنيل والفرات،و جداره مبني من حروف الألف والعين والضاد. فسرعان ماحملتني طقوس الضوضاء والمرارة على بساطها السحري لتأخذني في رحلة تأمليٌة حول عالم المقاطعة العربية للمنتوجات الإسكندنافية.
الشاذ في الأمر أنني أحببت قشدة " البوكا" بعد الواقعة أو الوقيعة الكاريكاتورية . فلم أر داعيا لظلم البقرة الدنماركية وحرمان جبنتها من أن تغرغر داخل أمعائي .
فالبقر، في اعتقاد معدتي، لاشأن له بالموضوع. والرسوم تمت من قبل صحفيّ قلب حريّة التعبير رأسا على عقب في زمان ومكان خاصيّن لحاجة في نفس يعقوب. أمّا البقرة المسكينة، الضّاحكة منها والعابسة، فليس لها في الأمر أي ضلوع .
والبقرة ، على مايبدو، مازالت تضطلع منذ عهد موسى عليه السلام بأشق المهام، ثم إن البقر قد تشابه على العرب والمسلمين في هذه الأيام.
نُشرت الرسوم، فاندفعت الحشود، وأشعلت النيران في الأعلام، وداست الأقدام الصور واللافتات، وبلغت الأصوات الحناجر، وغادرت المرضعات الديّار، وارتفعت الأيادي الملطّخة بالخبز والمرق، وأقسم كلّ برجولته ولحيته وشنبه الذي لم يحلقه منذ عشرات السنين ، فالتهبت جدران القنصليات ، وأُضرمت النّار في السيارات، ولُعن القاصي والداني، ثم أخيرا وليس آخرا رُفعت الأكف تضرعا للعلي القدير(كالعادة) بأن يقهر أعداء الدّين ويدمر المشركين.
وإذا ببعض مفتي الأمة، المرشدين الواعظين والدعاة الجهابذة والعلماء الملهمين، يغادرون أريكتهم المريحة وأرجيلتهم الموقدة في وسط أحد قصورهم الخليجية، ويرفعون حناجرهم المرهقة من جراء الإكثار من الدعوات والإستغفار للسلطان، ليعلنوا أمام الملأ أن مقاطعة الجبنة فرض عين على كل من تفوّهَ فاهُ بكلمة "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"، ثم يختمون كلامهم بنقيض ذلك كله : السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
فأين هي الرحمة؟ والسلام؟ والبركة ياشيخنا ؟ بعد أن أهدرت دم الصحافيّ الدنماركي؟ وأية مقاطعة تدعونا إليها؟ الحضريّة أم القرويّة ؟ "البوكا" الزرقاء أم ذات الغطاء الذهبي ؟ إن الجبن قد اختلط لدينا !!
وماذا عن مقاطعة سيّارات المرسيدس من فئة الستمائة التي تركبها ياواعظنا؟ وماذا عن مقاطعة حكوماتنا التي لاتؤمن أصلا بالعدل بين الناس وتكافؤ الفرص؟ أين كانت لحيتك المشعة وقارا حين كانوا يحلقون رؤوسنا فوق صناديق الإقتراع ؟
أم أنها فقط تظهر كالهلال في مواسم الختان والزواج والطلاق والأعياد وانتهاك الحرمات وتشويه المقدسات؟
وكيف لك أن تفتي ياشيخنا العزيز وصوتك الأرعن يقتات على فضلات السلطان ويمتص دماء الأوقاف؟
لاغرابة في ذلك كله، فقد تعودنا على سياسة الثنائيات ومنطق الإزدواجيات ، فإما الجنة أو النار وإما الحجاب أو السفور وإما الكفر أو الإيمان، بعد أن كنا أمة تعشق المديح قبل الرثاء ، أمة كنا نتوقف في لحظة الغروب لنرى الشمس في أبهى حللها رغم لوعة الفراق.
أتناسيت أم نسيت أول خطاب قرآني : "اقرأ باسم ربك الذي خلق" ؟ فالرسالة لم تأمر بالقطيعة والحرق واللعنة والقتل. وكلمة الرب في إصطلاح لغة الضاد ، ياسيدي الفاضل ، معناها : "
هو رَب كلِّ شيءٍ أَي مالكُه، وله الربوبيَّة على جميع الخَلْق". فلا استثناء في الأمر، والخطاب في الآية يخص البشرية جمعاء على اختلاف ألسنتهم وأديانهم ومشاربهم.
فإذا كانت المسيحية تدعو الى تصعير الخدّ، فإن الإسلام يأمر بالسلام. ومحمد صلى الله عليه وسلم ماتردد قط في التعامل تجاريا مع اليهود رغم سحرهم ولعنهم وسبِّهم له، بل إنه توفي و
درعه مرهونة عند يهوديّ ‏بثلاثين صاعا من شعير.
وماكان محمد صلى الله عليه وسلم غليظ القلب بل سمحا رؤوفا حتى بأعدائه. اضطهده أهل مكة وهمّوا بقتله وطردوه وأتباعه المستضغفين، فهاجر صلوات الله عليه الى يثرب، ثم رجع بعد حين الى مكة مشدود الأزر قويّّا، فظن أهل الشرك أنه قد عاد ليفتك بهم لكنه عفا وصفح. وبذلك علّم صلى الله عليه وسلم أتباعَه أنّ خيرَ الغنيمةِ كسبُ مودةِ النّاس، العِدى منهم قبل الأصحابِ.
المسلم، ياشيخنا العزيز، يؤمن بالله ورسوله إيمانه بطيبة القلب البشري، كونها الأصل و الفطرة الإلهية وأن مادون ذلك استثناء. فمكانة الرسول مُصانة رغم كيد الكائدين بالسبع المثاني والذكر الحكيم.
لقد قام الصحافي الدنماركي بمحاولة تشويه صورة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم عن طريق رسوم كاريكاتورية انطلاقا من سوء فهم للحضارة العربية الإسلامية ولمكانة الرسول في الأفئدة، لكنك دعوتنا لأسوأ من ذلك كله، فأثبتنا للعالمين بأننا أمة الخبز والمرق، وقمنا بالتصدي لسوء الفهم بالهمجيّة، وقمعنا التعبير بفلسفة العنف بدل حسن المجادلة، وارتدينا عباءة السلبيّة وكوفيّة رد الفعل بدل لباس الحوار وتاج التقوى.
شيخنا العزيز، لن ألوم الصحافة الدنماركية لكنني ألقي باللائمة عليك وعلى كل الأئمة أمثالك القابعين تحت خيمة السلطان. لأنك ساهمت في رسم هذه الصورة التي تقشعر لها الأبدان. ذلك بأنك حكمت على القرآن بالسجن المؤبد داخل جدران المساجد عوض أن يُدرس طبّه في المعاهد، وتُفكك عناصره الكيميائية في المختبرات ، وتُلقن فلسفته في دور الحكمة، وتُدرس لسانيّاته في مجامع الكلم، وتُطبّق أحكامه على سلطانك وضامن رغد حياتك. واكتفيت ، يامرشدنا، بوجوب الوضوء قبل القراءة وتغافلت عن ماهيتها والمقاصد منها.
شيخنا الموقر، إنك تترقب اعتذارا رسميا من الحكومات الإسكندنافية يطيب خاطرك المرهف ويمسح دموع تماسيحك ويحقن ضميرك المدمن على السلبيات والشكليات.
عذرا شيخي العزيز، فلن أحول لغتي الى خادمة تكنس أعتاب جنابكم الشريفة. ولست أخشى فتاويكم الخاوية، وماأنا بطامع في وزارة أوقافكم المبجلّة ، ولن أنافق سماسرة داخليتكم المهابة ، فلتهدر دمي كما استبحت دم الصحافي الدنماركي، فإني قد حكمت على نفسي بالهلاك منذ الولادة، منذ مئات السنين حين ألصق أمثالك تهمة الإلحاد والمروق بالحلاّج
وقُطّعت أرجله وأيديه من خلاف.
إمامنا المعتل، ياشيخ عصور الظلام ، أما آن الأوان لتغادر فراشك المبثوث بفضل من السلطان والمنفوش بريش النعام، فإن الموت واحدة وإن تعدّدت الأسباب، فلتمت أنت ذليلا على سريرك الوثير فإني فضلت الإختناق بالمداد وفي جعبتي ذرة من كرامة.

ليست هناك تعليقات: