في زاوية أحد المقاهي المكتظة وسط مدينة دنفر سألني جون عن لغة الكتاب الذي أقرأه ٬ فأجبت بنبرة حزينة وبأحرف إنجليزية عقيمة تكاد تخفي صهوة العربية وجماليتها: "إنها اللغة العربية". وبعد صمت رهيب، أعلنت في حوار مع الذات : " إنها اللغة الوحيدة التي رفضت أن تتحول الى باغية في زمن القشرة".
جون مثال الإنسان الأمريكي المنغمس حتى الثمل في ثقل الهم المعيشي. رغم شهاداته الجامعيّة العليا، فإن الصورة العربية لديه تُختزل في الرقص الشرقيّ ، وطبق الكباب الحلبيّ ، وقبة مسجد شارع باركر ، ولحية بن لادن الداكنة السواد ، وغراميات شهريار ، وحكايات علي بابا والأربعين حرامي .
استمر حديثي مع جورج بضع ساعات لم تكن كافية لنقل الصورة العربية الغائبة والمغيبة خلف الكواليس. لكن تم خلالها تقديم لمحة مختصرة عن العروبة وتاريخها المجيد ، ومحاولة تنظيف مالوثثه الأيادي العربية وحفظ ماء الوجه.
فمن العيب أن نتحول الى مجرد صورة راقصة لاتحمل بين ثنايا طياتها سوى ثقافة هز البطون. تلك الصورة الصامتة الخرساء التي توظف لغة الجسد على إيقاع الطبل والمزمار في غياب روح واضحة المعالم .
ومن المشين أن نتحول الى مجرد مستهلكين خائبين لاهثين وراء إقتناء المنازل والسيارات والسندات البنكية وأسهم وول ستريت ظنا منا بأن ذلك هو الحلم الأمريكي . فنحن حفدة الإدريسي الذي رسم خارطة الحلم الأمريكي على كرة من فضة قبل أن يضطر كولمبس الى قضاء حاجته في العراء على السواحل الأمريكية.
ومن المغبة أن نصبح مجرد متلقين سلبيين يتنفسون الصعداء من خراطيم الأرجيلة ومن مشاهدة أخبار الجزيرة. فنحن أصحاب حضارة يمتد نفسها من الأندلس الى الصين .
ومن المهين أن نستجدي الوطن الأمريكي الذي منحنا إمكانية العيش الكريم خلف طوابير "الفود ستامب" بعد أن كنا قبلة للكرم الحاتمي ونزلا لكل ضيف كريم .
وكيف لنا أن نقبع ساكنين وراء الإمام في المساجد للدعاء وترديد كلمة آمين عل السماء تمطر ذهبا أو فضة بعد أن كانت هممنا تهز جبالا ، وبعد أن أخرجنا من صلب أمتنا رجالا أفذاذا.
نحن أكبر من ذلك كله. نحن أمة تستيقظ على لحن العصافير ، وتقبل وجه الشمس ، وتتيمم بحفنة التراب ، وتزرع الورد على الشفاه وتسقيه بدموع الفرحة ، وتصافح كف المطر وتردد السلام ، وتعشق رائحة الكتب وترضع أولادها الفصاحة ، وترتدي خشوع الليل وتطوف الكعبة بعكس اتجاه عقارب الساعة.
فأية صورة نقدم للمجتمع الأمريكي ؟ صورة الخبز والماء أم صورة جالية عربية متحضرة ؟ صورة المستهلكين المستضعفين على كثرتهم كزبد اليم أم المتحدين الفاعلين النشيطين كالموج؟
تصحيح الصورة فرض عين يقع على عاتق كل من تجري في عروقه دماء العروبة والإسلام ، وذلك عن طريق المشاركة الفعلية في الحياة السياسية ومراكز اتخاذ القرار، وتقديم مرشحين عرب لانتخابات المجالس البلدية، وتنظيم مهرجانات ثقافية سنوية في وسط المدن الأمريكية يعرف بما يزخربه قوم لغة الضاد من حضارة وتراث، والمشاركة في المجتمع المدني بتأسيس منظمات غير ساعية للربح تلقي بالضوء على الجانب المشرق فينا .
كل ما يسير في ذلك الإتجاه يعد حتمية لابديل عنها لمسايرة العصر. فنحن في حاجة ماسة الى لسان فصيح يدوي في الأرجاء، ولغة خطاب تتجاوز خطبة يوم الجمعة ليتردد صداها خارج جدران المساجد فيصل الى وقر آذان الشعب الأمريكي ، وإلا اتهمت دشداشتنا بالرجعية وأدخل حجابنا قفص الحرية كما حدث في فرنسا. فانطوائيتنا وعزلتنا كجالية ستجعل الآخر يتوجس منا خيفة. والعاقبة للمتقين الذين يتخذون العبرة من الماضي ويبادرون بالأمور قبل بلوغ السيل الزبا.
وإن الجالية لتزخر بالطاقات المثقفة والعلمية والكفاءات المهنية والمؤهلات المالية التي تسمح لها ليس بتقويم الصورة فحسب ، ولكن بلعب دور طلائعي في المجتمع كوحدة قوية البنيان قادرة على التأثير عوض المجهود الفردي العشوائي الذي لن ينبت في رأس الأصلع شعرة واحدة.
فلنغادر مركب اللطم وشق الجيوب ، ولننتقد أنفسنا عوض إلقاء اللوم على الآخرين ولنحقق رؤيا الأجداد. الفرشاة والصباغة بأيدينا، فإما أن نرسم لوحتنا بأنفسنا وإما أن نظل مجرد كاريكاتور في عيون الآخرين.
فؤاد وجاني
يناير 21، 2006
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق