الاثنين، ديسمبر 17

مقام الشعراء في زمن الرعاء بين جهل الأمراء وصعلكة الرؤساء

لايختلف اثنان حول منزلة الشاعر في تشكيلة المجتمع. فالشاعر زبدة المجتمع، وضميره اليقظ، وقلبه المرهف، وصوته الرنان، وعينه الساهرة، وهمته العنقاء . اما الشعر فمنظوم القول سواء كان مقفى أم حرا. وهو صناعة لاتبلى ، وقريحة لاتنفذ، وصياغة لاتزول ، واستعارة لاتمل. وقد يطول بنا المقام في هذا المقال في تعريف الشعر وأهله ، والثناء على النظم وربعه ، لكننا سنكتفي بالمختصر المفيد دون إسهاب أو مزيد. منذ عصور الجاهلية الأولى التي نجهل عنها الشيء الكثير، اعتنق العرب الكلام فصار جله شعرا ، فميزوا بين جيد الكلام ورديئه. يجتبون لأولادهم اقصى المرضعات ديارا وأوغلهن في البداوة استبيانا. بل إن الشاة عندهم، إنْ خَلُص لبنها وصفا، وأُزيلت الرّغوة عنه، سميت بالفصيحة . بذلك أنجبت رحم الجاهلية شعراء من طينة امرأ القيس والأعشى والنابغة الذبياني وزهير ابن أبي سلمى. فكان الواحد منهم لسان قبيلته الفصيح، ووزارة إعلامها الواسع الفسيح . يتفوه بما لا يفقهه علماء العجم، ويشعر بمالايُحسّه رعاء البهم ،ويفصح عن وابل الحكم. فكان موضع استشارة لدى شيوخ القبيلة، ومحل استخارة عند أعيان العشيرة . وقد ضاع من شعرهم الكثير ولم يبق منه سوى اليسير ومنه المعلقات
وبعد مجيء الإسلام بكتاب الله الفاصل بين الحق والباطل وسنة نبيه العادل، دخل شعراء الجاهلية في رحاب الإسلام واهتدوا بهدي الإيمان. فأنشد حسان بن ثابث الانصاري في مدح الرسول أبياتا، ورسم من الوعظ والإرشاد ألوانا. كما خاض الخلفاء الراشدون معركة القلم في الحماسة ورفع الهمم لإعلاء كلمة الدين بين سائر أصقاع الأمم. فأبدع علي ابن طالب،كرم الله وجهه، في هجاء أبي لهب وتَرك لبنيه وصايا الأدب.
وإبان العصر الأموي، برزت أسماء لازال
صداها يغتال الأسماع ويدوي في الأصقاع ، فحبلت البصرة بشعر الفرزدق، وترنّحت اليمامة لإبداع جرير، وتغنى الأمويون بديباجة الأخطل. بل إن جريرا أدرك خليله الفرزدق بعد وفاته بشهور قليلة، وكأن الحياة دون شعر الهجاء موت زعاف في الزمن الجميل. وأقسمت العرب أن لاأَشعَر من هؤلاء الثلاثة في العصر الأموي. كما أن أمراء الدولة الأموية وخلفاءها حرصوا على مصاحبة الشعراء والكتاب والعلماء واللغويين ، فكانت مجالسهم لاتخلو من استشارة أهل الشعر وتذوقه على مر العصور. بل إن الخليفة معاوية بن أبي سفيان ،أكبر داهية في العصر الأموي، كان بارعا في الشعر، متمكنا من الفصاحة، وفطن الى دور الشعراء البالغ في استتباب الدولة الأموية الفتية، وتحويل الخلافة الشورية الى وراثية. ثم أتى العصر العباسي الغزيرة مكارمُه والجمّة محاسُنه. أسواق الأدب فيه مكتّظة نافذة، وبضائع العلم معروضة نافقة ، والخيرات فيه دائرة عامرة، و الثغور العربيّة مهابة محصنة. فمتى يعم الأمن ويُسلَم من الجوع، تميل الشعوب الى إبتغاء الكمال والسعي لكشف خبايا العلوم وأسرارالجمال، فتنتشر العلوم بكل ألوانها، وتظهر المذاهب الفقهية بجميع أصنافها، وتُترجم علوم الإغريق والرومان بكل أنواعها . وبذلك عاش الشعراء عصرهم الذهبيّ تارة تحت فيء قصر السلطان، وتارة تحت رحمة سوط السّجان، وأخرى تحت سقف سماء الرحمان. لكن شعرهم كان حرا طليقا ، يضجر آذان الحاكم فتُقطف له الأعناق، ويفشي أسرار المحكوم فتهتز له الآفاق ، وكان للسان سلطة على العلية والأراذل، تارة يثني ويمدح وأخرى يذم و يقدح. ومن أشهر شعراء العصر العباسي : أبو نواس والمتنبي وأبوفراس الحمداني وابن الرومي والبحتري وأبوتمام وأبو العتاهية والمعري. بل إن هارون الرشيد والمأمون نفسيهما كانا شاعرين . وهَلَّ العصر الأندلسيّ بطلعته البهيّة ورياحينه الزكيّة ، فزرعنا الجنان على بساط البريّة . وامتزجت الشامات البربريّة بالعروق الروميّة والحروف العربيّة ، فاكتسبت الثقافة العربية عيونا في طرفها حورُ تصرع الألباب، وتحبس الأنفاس، وتفتح الأبواب لعالم فاضلٍ حَقَّق التعايش بين كل الأقوام والأديان . الأندلس جنّة الخلد الفانية، عروس عن الحليّ بجمالها غانيَة، تغنّى بها الأندلسيّون شعرا ولحنا أيام الأمويين والمرابطين والموحدين . فهام ابن زيدون بجفاء حبها، وتطيب ابن حزم بصعيد ترابها، وعانى لسان الدين الخطيب في الهوى من جفونها، وبكت أقلام أبو البقاء الرندي مدادا لبداية فقدانها . هؤلاء ونُظراؤهم ممن احترفوا صنعة الإلهام، نسجوا خيوط الشعر على سجادة التاريخ الذهبي لمدة فاق تعدادها السبعمائة سنة. وبعد أن اصطففنا جنب الأنجم ، تذوقنا طعم العلقم بعد سقوط الأندلس الحلم. وأتىحين على الدهر تحولت الإمبراطورية الى شرذمة المماليك والأتراك ، فحكمت إحدى صُويحبات يوسف "شجرة الدر" مصرا وتزوجت أحد المماليك وهو عز الدين أيبك التركماني ، وهكذا بدأ عصر المماليك والذى
قسمه المؤرخون إلى قسمين: الأول وهو البحري أو الممالك
البحرية والثاني وهو البرجي أو المماليك الجراكسة . و توالت المحن والنكبات ، وصارت الحمى العربية والإسلامية فريسة سهلة ولقمة سائغة لشهوات المغول والتتار ومطامع الصليبين. وبماأن الشعر مرآة الدولة يعكس أحوالها ويضاهي أوصافها، فإنه يبلغ أرذل العمر إذا ما احتضرت الدولة وأشرفت على المنية . فلم تشهد الحقبة سوى ومضات زائلة وقصائد ذابلة مصدرها أمثال البارودي والبهاء زهير. أما في عصر النهضة ، وبفضل من الله، قام نخبة من الشعراء والمفكرين بتحرير العقول التي بها تستقل الأوطان، فنادى شكيب أرسلان ومحمد عبده ومصطفى صادق الرافعي والعقاد بالدعوة الى استعادة امارة البيان وتفعيل لغة الفرقان. فظهر الى الوجود شعر شوقي وأبو القاسم الشابي وايليا أبوماضي وحافظ ابراهيم ومعروف الرصافي وغيرهم من شعراء العصر الحديث ، وتحررت الأوطان من الإستعمار بالسيوف والأقلام.
أما اليوم في زمن الرعاء ، فإن مقام الشعراء غير محمود وصوتهم غير مسموع، تتجافى أقلامهم عن
مضاجعة رغبة الأمراء ويتمرد مدادهم عن مراودة شهوة الرؤساء . فالشاعر طائر يعشق الحرية، موطنه بيت القصيدة، وهويته حروف أبجدية عربية، لايبيع بضاعة الحب لتاجر الجمال، ولايستسلم لمزبلة التاريخ، ولايخضع لقمامة الدنيويين حتى لواقتضى الأمر ترك الرزق المبثوث ونبذ العيش المنفوش .
جل شعرائنا اليوم ، والحمد لله الذي لايُحمد
على مكروه من سواه، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر في غرفة العناية الغير مركزة ، في المنفى يتخبطون، وراء دور النشر الحرة يلهثون . أما من بقي منهم في بقاع العرب فإما أن تكتنفته قضبان السجون، أو تتلقفه أفواه الفقر والإهمال، او يناله شرف الإغتيالات والمنون. يبكون افتضاض بكارة فلسطين، ويرثون فشل مشروع القومية ، ويندبون ضياع الهوية العربية ، ويلطمون مغيب فجر العراق، ويذمون بزوغ قمر الحكام الآفل يوما لامحالة.
فقد قبّلت المنية ثغر نزار قباني ليلحق بملهمته ملكة بابل بلقيس دون
أن يعلم مصير أمواج دجلة ونخيل بغداد وجنائز كربلاء وان اللص فعلا كان يرتدي رداء المقاتل. "فماذا يقول الشعر في هذا الزمان يابلقيس؟". ومات الماغوط ويده على قلبه، وقد حكم عليه الدهر بحبل المشنقة منذ قطع الحبل السري، ولم يتسنى له قط الجمع بين عشيقاته الثلاث :الحب والوطن والحرية. ياسيدي الماغوط ، ان الالتفاف بكفن عَلَم عربيّ جريمة تهدد أمن الدولة وتوحي للحاكم بمؤامرة انقلاب قد يشنها الموتى مادام الأحياء لاخوف منهم ولاهم يفرحون. لاشك انهم بعثوا وراءك مخبرا يقيم بالقبور حتى الممات!!
ومازال درويش للريح يغني خيبتنا وأصداء
بيروتنا في الزمان الرخو. الدم المتدفق ، ياشاعرنا، وحده مازال يملك أعراضنا بعد أن هُتكت أرواحنا. صحيح أننا أحرقنا مراكبنا فما ينفع الحرق وقد ضيعنا خرائطنا ؟
أما أحمد مطر فإنه مالبث يتعوذ بالله
العلي العظيم من الكوابيس ومن السلطان الرجيم . يوم يموت كلب أحد هؤلاء الرؤساء، سيتهمونك، يامستر مطر، بأن عظامك قد سممت عضته!!
ومازال السياب يحمل المصباح في عتمة الموت، وينشد ثورة عبد الكريم وقد
فاضت دجلة بمياه الثورة، فهل ياترى تعاود دجلة الكرة مرتين؟
وتركتنا ياجواهري لكن جواهرك في أعناقنا
رغم أن الجميع أخ لبطنه وليس بيننا جائعُ ، وماأحسب أبياتك بعد اليوم تصافح قلبَ طفل العراق اليافعُ. ولن يخذلك التاريخ يامظفر النواب فإن الظفر لابد آت رغم أنف الصعاليك وقطاع الرؤوس ومبغى خوازيق السياسة.
خلاصة القول وزبدة الكلام في أرق الأنام أن
علاقة السلطة بالشاعر في زماننا محفوفة بالجفاء والتخوين والإعتقال والإتهام. وإذا كانت السلطة تملك سلاح الإرغام وقوة الإكراه فإن الشاعر يمتلك سلطة اللسان ونفوذ البيان والقدرة على حشد الوجدان بالمعاني والتأثير في الشارع العام . ولو علم افلاطون ماأحدثه الشعر العربي المعاصر من تغيرات وتقلبات في جو السياسة و مَناخ الحكم في عصر الرعاء، ، لغيّر رايه في الشعراء بعد أن طردهم من مملكته الهلينية الفاضلة.
وخاتمة المقال نسأل الله إله القلم، جامع الكلم، باعث الرمم ، ذي البقاء والقدم أن يجزي شعراءنا عنا خير النعم ،
ويقيهم شر النقم ، ويمدهم بمتين الحكم، ويوقظ على أيديهم الهمم.
بقلم: فؤاد وجاني

بتاريخ 2 أكتوبر 2006

ليست هناك تعليقات: